المصريون جميعًا؛ باستثناء الأنذال والمغيبين، قالوا لرأس النظام "مش عايزينك" حتى تصدر الوسم "تريند" مواقع التواصل، وقالوها من قبل فى الأحداث والمناسبات وعقب الكوارث والتنازلات، وصرخوا بها مؤخرًا لمَّا أبدى استعداده للمغادرة إن هم أرادوا ذلك، أسمعوها له هذه المرة مدوية: "مش عايزينك، مش عايزينك".. لكن لا حياة لمن تنادى.

ولو أنه نظام حقيقى، جاء بإرادة الشعب، لاستجاب للنداء ولخلع السلطة على عجل وردها إليه، لكنه نظام غاصب، انقلب على سلطة شرعية منتخبة بقوة السلاح، ووأد تجربة ديمقراطية فريدة، وشرع فى إسالة دماء معارضيه حتى صارت محنة عظيمة لم يشهدها تاريخ مصر الحديث.

"يانحكمكم يانقتلكم".. هذا هو شعار هذا النظام، ودعك من مسلسلات الوطنية الزائفة وادعاءات الزهد فى الحكم و"عدم الرغبة أو الإرادة"، بل هناك رغبة ملحة وإرادة لا تلين فى الاحتفاظ بالسلطة، أيًّا كانت النتائج، وتهديد كل من يقترب منها، وما جرى فى المحروسة على مدى السنوات السبع الماضية من تردٍ وتجريف إن هو إلا بسبب الاستمساك بهذه السلطة.

وإذا كان من حق الشعوب أن تتململ من حكامها وتطالب بتغييرهم إن وجدوا منهم تقصيرًا فى الأداء أو عدم وفاء بما قطعوه على أنفسهم من وعود –فإن من حق المصريين أن يفعلوا ذلك، وأن يشعروا بأنهم فى دولة تحكمها المؤسسات لا تحت حكم مجموعة عسكريين يهددونهم بالسلاح. من حق المصريين أن يقولوا لهم "مش عايزينكم" للفشل الذريع الذى لم يسلم منه مجال من المجالات، وللفساد والتردى فى المصالح والإدارات، وللقمع والتنكيل الذى لم ينجُ منه مصرى، وللتفريط فى مقدرات الأمن القومى، ولهدم البيوت والمساجد والتهديد بنزول الجيش لتولى عمليات الإبادة فى القرى والمدن، وللجباية التى صارت هى المصدر الوحيد لميزانية الدولة التى خلت من عنصر الإنتاج.

إنك لو بحثت فى سائر الأنظمة المستبدة التى يُضرب بها المثل فى القمع لوجدت حسنة أو اثنتين كورقة توت تغطى بها هذه الأنظمة سوءاتها، أما هؤلاء فليس لهم حسنة واحدة ترجح سيئة من سيئاتهم أو خطيئة من خطيئاتهم؛ فقد يكون النظام مستبدًّا لكنه وطنى، وقد يكون قمعيًّا لكنه غير فاسد، أما هؤلاء فقد جمعوا السيئات كلها، ولم يسمحوا بأن يتعاطف معهم أحد، إلا شريكًا لهم أو نذلًا ذا مصلحة من وجودهم. إذ ليس من العقل أن تُلغى الحياة السياسية برمتها، وأن تُصنع أجهزة الرقابة بأيديهم وعلى أعينهم، وأن يتجاوزوا فى حقوق الإنسان إلى درجة غير مسبوقة مع صيرورة العالم قرية صغيرة. وهذا المسالك المجنونة لها نتائجها الكارثية، لكنهم من أجل البقاء والسيطرة على الغضب الشعبى يعتمدون على السلاح والقوة الغاشمة كما لم يخف على أحد.

يا ليت كان بينهم رجل رشيد يدعوهم إلى مراجعة أنفسهم، ويحذرهم من مغبة السير فى تلك الطريق الوعرة التى سيكون فيها حتفهم بعدما يضيع البلد.. لكن على ما يبدو أنهم "دستة أشرار"؛ فالإصرار على البقاء يجرى على قدم وساق رغم كل المصائب التى تسببوا فيها، وهم يخططون ويمكرون مكر إبليس كى تدوم لهم السلطة، بدءًا من تسخير الأجهزة الأمنية كافة للناحية السياسية ولأجل الحفاظ على "الكرسى"، وانتهاء باختراع قضايا ومسلسلات لإلهاء العامة وتزييف الوعى، وما بين هذه وتلك ضاعت القيم، وفسدت الأخلاق، وانهارت معهما "المحروسة"، أمل الأمة ومصنع أبطالها.

إن اللاعب إذا شاخ فى ملعبه أو بدأت هزائمه بادر بالاعتزال حرصًا على تاريخه وسمعته؛ فما بالك بلاعب يلعب منذ ستة عقود لعبة غير لعبته ويمارس مهمة ليست مهمته وقد ضُرب به المثل فى الفشل؟ ولو ظل على هذه الحال ولم يستجب لطلب الشعب بالرحيل لآلت الأمور مآلات خطيرة؛ ففى كل ساعة تحت هذا الحكم ننقص ولا نزيد، ونضعف ولا نقوى، ونفتقر ونمرض ويزداد بأسنا فيما بيننا. وإذا كانوا مصرِّين على البقاء فليصرّ الشعب على موقفه بحتمية الرحيل؛ ما يستلزم البحث عن وسائل أخرى للضغط عليهم وإجبارهم على المغادرة قبل أن نصير "زى سوريا والعراق".. وقد بدأت إرهاصات هذا المصير جلية بعد قضية هدم البيوت.