بقلم فضيلة الشيخ: محمد عبد الله الخطيب

من حق الأخ كمال السنانيري علينا أن نذكره وأن ندعو له، وأن نقف عند شخصيته وقفات فيها التأمل والنظر، فلقد كان فذًّا في حياته، في عبادته، في صومه، في صبره، فبعد سجن استمر تسعة عشر عامًا، وبعد عذاب ومعاناة لم تشهد لها البشرية مثيلاً لا في القديم ولا في الحديث.. خرج الأخ محمد كمال الدين السنانيري، ليواصل جهاده في سبيل الله يواصل جهاده مع إخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾ (آل عمران: من الآية 146).

 

خرج من هذه المحن والخطوب ودعوة الإسلام عنده أغلى من روحه فهي كيانه، ومصيرها مصيره، ومستقبلها مستقبله، لقد ربط نفسه بها، إنه- رحمه الله- من العنصر الكريم الأبيِّ الجادِّ، صاحب العزيمة القوية وليس من النوع الذي يعتذر عن مواصلة الطريق إذا رأى شدة العقبات أو قلة السالكين أو كثرة عواء الذئاب، بل يمضي ثابتًا مجاهدًا مهما كانت الظروف، وأخذ- رحمه الله- يجول في كل مكان يجمع الكيان ويوحِّد الصفّ، ويسعى حثيثًا في تقريب وجهات النظر بين الرجال العاملين في كل مكان، وتلك طبيعة الإيمان في المؤمن.

 

يقول الرافعي فيه وفي أمثاله:

"إن لله عبادًا اختصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل، فإذا عرض أحدهم عن الشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد ونية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكن رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة".

 

وما أحسب الأخ كمال السنانيري إلا واحدًا من هؤلاء الربانيين، جاء إلى الدنيا في زمن فترت فيه النفوس، وقلَّ الأوفياء، وخمدت العزائم، فأثبت أن هذه الدعوة وَلُودٌ، وأن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان، واطمأنَّ إليها وثبت عليها هو الذي ينطلق صاحبه لتحقيق هذا الخير في واقع الناس، وهو الذي يبذل النفس والنفيس والجاه والمال والوقت في سبيل الحق الذي آمن به.

 

جوانب من حياته

هو السهل الممتنع، كان بسيطًا جدًّا في حياته، يصوم يومًا ويفطر يومًا هكذا باستمرار، وهو صوم نبي الله داود، كما أخبرنا المعصوم- صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ نفسه بالعزيمة، ويشدِّد على نفسه كثير الحساب لها، بعيدًا عن أعين الناس.

 

كان يأكل ما يجد ويلبس ما يجد، ولا يتكلَّف ما لا يجد؛ اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيتُه مرةً وأحدُ الإخوة يهاجمه ويعامله بعنف وهو ساكت لا يتكلَّم، ولما أردتُّ أن أردَّ عنه وأُسكِتَ هذا الذي تجاوز حدوده.. ثار عليَّ وأمرني بعدم الاعتراض على الأخ أو إسكاته، وبعد أن هدأ الأخ وقال كل ما عنده بدأ- رحمه الله- يشرح له المسألة ويبيِّن له حقيقة الموضوع، فإذا بالأخ وأنا معه يتعلَّم منه الدرس ويخرج من عنده وهو راضٍ هادئُ النفس، ولو تركني أردُّ عليه لتطوَّر الأمر أكثر، وضاعت الحقيقة.

 

خرج من السجن بعد ما يقرب من عشرين سنة، ليذهب في اليوم التالي إلى فضيلة الأستاذ ليقول له: إني كجندي جاهز للعمل لدعوتي من هذه اللحظة ومستعدٌّ للقيام بواجبي.

 

وُلد الشهيد في 11/3/1918م، وفي عام 1934م، حصل على الثانوية العامة، والتحق بوزارة الصحة في قسم مكافحة الملاريا.

 

في عام 1938م ترك العملَ في الصحة، وأراد الالتحاقَ بإحدى الجامعات الأمريكية لدراسة الصيدلة للعمل في صيدلية (الاستقلال) التي يملكها والده، إلا أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى أمريكا بعد أن هيَّأ حقيبة السفر وباع أثاث بيته واتجه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة المتجهة إلى هناك.

 

في أثناء الحرب العالمية الثانية عمل في ميناء شبه حربي كانت تنزل فيه معداتُ جيوش الحلفاء وتمويناتهم، اسم هذا الميناء (أبو سلطان)، وما زال موجودًا حتى الآن.

 

بعد وفاة والده أصبح هو المعيل للأسرة التي كانت تضم أخاه الكبير محمد عز الدين الصيدلي "وهو الآن لواء متقاعد" وأخوين أصغر منه، هما محمد سعد الدين ومحمد شوقي "مقدم متقاعد" وأخواته البنات الثلاثة، الكبيرة تُوفيت رحمها الله.

 

انضمَّ إلى جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الأربعينيات، وكان ضمن المعتقلين عام 1954م، "اعتُقل في الشهر العاشر" وحَكمت عليه المحكمة التي أنشأها عبد الناصر بالسجن، الذي أمضى فيه كامل الحكم حتى أفرج عنه في يناير 1973م.

 

كان قد تزوَّج قبل اعتقاله ورُزق من زوجته بابنة تُوفيت بعد الحكم عليه بأشهر قليلة، أما زوجته فقد عمل أهلُها على تطليقها منه بعد الحكم عليه دون رضاها ودون رضاه، فقد اتفقت زوجتُه معه على انتظاره حتى يخرج من السجن، لكنها وافقت على الطلاق بعد ضغطِ أهلها وتخيير كمال الدين لها.

 

أصيبت أذنه بأذى من شدة التعذيب فنُقل إلى مستشفى قصر العيني، وكان يحمد الله بعد خروجه من السجن لأنه صار يسمع بأذنه المصابة أفضل مما يسمع بأذنه السليمة.

 

ومن شدة التعذيب الذي لاقاه الشهيد كمال في السجن أنَّ شقيقًا لزوجته أصيب بالذهول من فظائع التعذيب حتى جنَّ ونقل إلى مستشفى الأمراض العقلية.

 

في فترة سجنه عقَد قرانَه على شقيقة الشهيد سيد قطب "أمينة" وتزوَّج بها بعد خروجه من السجن في عام 1973م، ولم يُرزَق منها بأطفال.

 

ولم يكن يميل إلى الاستقرار في مكان واحد، وكان حبه لدعوته يجعله كثير التنقُّل والأسفار، ولهذا لم يقتنِ شقةً وأثاثَ بيت، يقيم أحيانًا عند شقيقته الكبرى الأرمل، التي كانت قلما تبقى في بيتها لزيارتها الأهلَ وأفرادَ الأسرة، وكانت شقة أخته قريبة من إدارة تحرير مجلة (الدعوة) في عابدين.

 

كان بطبعه لا يحب المظهرية، ويميل إلى البساطة، يرتدي القميص والبنطال، ويطلق لحيته، ويحب البسطاء من الناس، يعظهم ويجمعهم حول عقيدتهم نقيةً من البدع والشوائب.. حلو الحديث، يختار الصفوة من مجتمعه ومن مجالسه ليهيئهم ليكونوا دعاةَ خير ودعاةَ محبة، وكان يأسر الناس بحديثه، أُوكلت إليه عدةُ مهام في المركز العام سابقًا.

 

من يراه وينظر إليه لا يعطيه هذه السن الكبيرة، فقد كان دائم النشاط كثير الحيوية، يحرص على اجتماعه بكثير من الإخوة من مختلف الأقطار، ولا يدخر جهدًا ولا وقتًا ولا مالاً في سبيل الله ودعوته إليه.

 

من المواقف التي تشهد بتأثيره في الناس وحبهم له موقفه في مظاهرة الإخوان المسلمين في عابدين أيام كان هناك انشقاق بين أعضاء قيادة الثورة.

 

فقد كان كمال رحمه الله مسئولاً عن رعاية هذه المظاهرة الشعبية السلمية التي لم يكسر فيها شيء، ولم تتفرق المظاهرة حتى اتصل بالشهيد عبد القادر عودة الذي خرج إلى الشرفة، وأمر الإخوان المتظاهرين بالانصراف إلى منازلهم أو إلى المركز العام، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل هيئة المحكمة تحكم عليه بالسجن المؤبد؛ إذ إنها أدركت تأثير هذا الإنسان الورع وحب إخوانه له.

 

كانت والدته وشقيقته الكبرى (رحمهما الله) تواظبان على حضور جلسات محاكمته في عام 1954م، وفي الجلسة الأولى لم تتعرف عليه والدته، لما أصابه من التعذيب، فسألت ابنتها أين أخوك؟! فقالت لها: هذا الذي في القفص فردَّت عليها الأم "لا يا بنتي أنا "عبيطة" حتى لا أعرفه" وقد ظهر وقد نحف جسمه حتى باتت ثيابه فضفاضةً عليه، وحلقوا شعر رأسه، وكسروا فكَّه حتى تغيَّر كلامه، وبقيت والدته في تلك الجلسة مصرةً على أن هذا ليس ابنها كمال.

 

وبعد الحكم عليه- وهو في المعتقل- أرادت منه والدته أن يكتب رسالة استعطاف إلى المحكمة، فسافرت إليه حين كان في سجن الواحات، وقد تجاوزت السبعين من عمرها، وصارت تستعطفه ليكتب مثل هذه الرسالة، فرفض رفضًا قاطعًا، وحذَّر من أن يكتب أحدٌ من أهله مثل هذه الرسالة، وقال لأمه: كيف يكون موقفي بين يدي الله إذا أرسلت هذه الرسالة وقبضت الليلة؟! أأموت على الشرك؟!

 

توحيده لقوى الجهاد الأفغاني ضد السوفيت

وبعد خروجه مباشرةً انطلق يعمل لدعوته ويجاهد في سبيل الله من أجل جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وأعطى جانبًا كبيرًا من وقته وجهده للجهاد الأفغاني، حتى إنه كان يذهب إلى بيشاور ويلتقي بالمجاهدين، ينصحهم ويحثهم على الوحدة، وعلى الصدق في القول والإخلاص في العمل، وكان من أعماله الطيبة أنه يستيقظ يوميًّا قبل الفجر بساعات وينزل إلى شوارع بيشاور يوقظ الناس لصلاة الفجر وينادي بهذا النداء الطيب يقول:

يا نائمًا مستغرقًا في المنام ... قمِ اذكر الحي الذي لا ينام

إلهك يدعوك لذكره ... وأنت مشغول بطيب المنام

لم يأت عليه يوم من الأيام ضاق بالقيود رغم بشاعتها أو ضاق بالسجون رغم شدتها.. بل كان نموذجًا في الصبر والاحتساب، كما لم يأتِ عليه يوم يشتكي فيه إلا إلى الله، هل صاحب هذه الصفات وهذه الأخلاق وهذه العبادة وهذا العمل للإسلام وهذا الصدق وهذا الوفاء لدعوة الله.. أهل صاحب هذه الخصال.. يموت منتحرًا؟! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ (الكهف: من الآية 5).

 

إن الأخ الأستاذ الشهيد كمال السنانيري قمةٌ من قمم الإسلام، كان يعيش فوق ربوة عالية من الأخلاق والإيمان واليقين، تلحقه بأعظم الشهداء وأكرم الأوفياء لدينهم.. الحقيقة هي التي قالها المولى- تبارك وتعالى- في كتابه العزيز له ولأمثاله من العظماء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمن من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِين* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين﴾ (آل عمران: 139- 141).

 

إلا أن دم الأخ الشهيد كمال السنانيري لعنةٌ على كل مَن شارك في استشهاده وعلى كل مَن ظلمه إلى يوم الدين. 

 

وبعد استشهاده في الثامن من نوفمبر 1981م سُلمت جثته إلى ذويه، شريطةَ أن يوارَى التراب دون فتح عزاء، ولم يخرج في جنازته سوى أقاربه، شقيقيه الضابطين المحالَين على التقاعد، وابن أخيه، وأصهاره الأربعة، وثلاثة من أولاد أخته.

 

رحم الله الشهيد محمد كمال الدين السنانيري، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.