للعبادات المطلوبة في الإسلام مستويان:

مستوى "الفرض" :

الذي يلزم به كل مكلَّف، ولا يقبل منه التكاسل عنه، أو التفريط فيه، فمن فعل كان مستوجبًا للذم والتأثيم في الدنيا، وللعقاب في الآخرة، وهو يمثل الحد الأدنى المطلوب من المسلم. وذلك يتمثل في الصلوات الخمس المفروضة في كل يوم وليلة، والزكاة المفروضة على الأموال النامية بشروطها، وصوم رمضان من كل عام، وحج البيت في العمر مرة.

وهذه الفرائض يكفر من أنكر وجوبها أو استهزأ بها، ويفسق من تركها، ولم يكن له عذر يقبله الشرع. والفرد مطالب أمام الله، وأمام المجتمع بأداء هذه الفرائض علانية، حتى يدفع التهمة عن نفسه، ويكون أسوة لغيره. والمجتمع مسئول بالتضامن عن إقامة هذه الفرائض، فعليه أن يعلم الجاهل وينبه الغافل، ويؤدب المقصر، والله تعالى يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله) (التوبة:71) .

والفرد إذا أدى الفرض - مستوفي الأركان بالشروط - فقد أبرأ ذمته، وأسقط الإثم عنه، ولم يكن لأحد عليه سبيل، وهذا ما صح به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعن طلحة بن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل عليّ غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام شهر رمضان"، قال : هل علي غيره، قال: "لا إلا أن تطوع"، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطّوع"، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" متفق عليه.

هذا هو مستوى الفرض، والمستوى الآخر، هو:

مستوى "التطوع": وهو ما طلبه الشرع من المكلف طلب ندب واستحباب، لا طلب إيجاب وإلزام. وهذا التطوع المستحب - وإن لم يكن حتمًا ولا فرضًا على المسلم - له ثماره الطيبة التي يجمل به أن يحرص على اقتطافها. فمن ثماره: أن يجبر ما عسى أن يكون في أداء الفرض من خلل وتقصير، ولهذا جاء في الحديث: إن الإنسان يحاسب على الصلاة يوم القيامة - وهي أول ما يحاسب عليه من حقوق الله - فإن وجدت صلاته كاملة فبها ونعمتْ، وإلا سئل عن تطوعه ليستكمل منه ما نقص من الفرض.

ومن ثماره: أنه "رصيد احتياطي" - إذا استخدمنا لغة المحاسبين - يواجه به المكلف "الخسائر" الناجمة من ارتكاب السيئات، والتي تكثر وتتفاقم أحيانًا حتى تكاد تأكل رأس المال. فمن الحزم والكيس أن يواجه المسلم هذا (العجز) المتوقع بألا يكتفي بالاقتصار على الحد الأدنى المفروض، وأن يستكثر من العبادة عن طريق التطوع، أو النافلة.

ومن ثماره كذلك: أنه يهيئ المسلم للترقي في درجات "القرب" من الله تعالى، حتى يصل إلى درجة الحب من الله عز وجل، فأداء الفرائض يوصل إلى "القرب"، وأداء النوافل يوصل إلى "الحب". وفي هذا جاء الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: "ما تقرب إليَّ عبدي بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يسعى بها .. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه" (رواه البخاري عن أبي هريرة) .

من أجل هذا فتح الإسلام باب التطوع لأرباب الهمم والعزائم، ليأخذ كلُّ بحظه منها، تبعًا لمدى طموحه وأشواقه إلى ما عند الله تعالى، وذلك في العبادات كلها.

------------

*  من كتاب "فقه الصيام" لفضيلة العلامة.