بقلم: فرج أبو طير

لقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، كمعْلم بارز في تاريخ الدعوة النبوية، ولِمَا للهجرة من آثار على انتصار الدعوة وظهورها، ولأنه بالهجرة ولدت دولة الإسلام، ووجدت قاعدته التي حملت هذه الدعوة ابتداءً، وقدمتها للعالم انتهاءً، فلقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الهجرة مباشرةً يضع دعائم الدولة الإسلامية ويقيم بناءها، الذي تمثل في الجوانب الأساسية التالية: 

أولاً: البناء الإيماني والأخلاقي 

ويهدف هذا البناء لتوثيق الصلة بالله تعالى.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (البقرة)، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)) (الذاريات)، وهذه العبادة هي المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية، وبغير هذا المفتاح لا إصلاح، ولهذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بناء الدولة بهذا الأساس، بدار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة المكرمة، ثم رفع بناءه بالمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة؛ حيث إن المسجد هو الجامعة الإسلامية الكبرى التي يتخرج منها أصحاب العقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة، والأخلاق المتينة، والثقافة والعلوم النافعة.

ثانيًا: البناء الاجتماعي

ولقد أثمرت قوة العقيدة قوة الوحدة والرابطة بين المسلمين الأوائل، فما إن وصل المهاجرون إلى المسجد حتى التفَّ حولهم إخوانهم الأنصار يدعونهم إلى بيوتهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، ويفدونهم بأرواحهم وأموالهم، حتى وصل الأمر إلى الاقتراع كما روى البخاري ما معناه: "ما نزل مهاجريّ على أنصاريّ إلا بقرعة"، وبالحب والإخاء تمَّ البناء الاجتماعي: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري)، "المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" (رواه أبو داود)، وبالإيمان والإخاء كان النصر والفتح المبين لدولة الإسلام، فهكذا يجب أن نكون.

ثالثًا: البناء السياسي

وتحقق ذلك من خلال ما عرف (بالوثيقة أو الصحيفة)، التي تمثل أول دستور في تاريخ الإسلام، والتي تضمنت بحق مبادئ بناء الدولة المدنية المعاصرة، ولكنها ذات مرجعية إسلامية محددة وواضحة، ومن هذه المبادئ:

- أمة واحدة.. جمعت بين كل طوائف المدينة (المهاجرين- الأوس- الخزرج- اليهود)، بكل قبائلهم وشرائحهم.

- المرجعية الإسلامية: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم".

- الحريات والحقوق العامة: "للمسلمين دينهم ولليهود دينهم"، "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم"، "وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم".

- من قواعد حماية الأمن: "لا يحل لمؤمن أن ينصر محْدِثًا أو يؤويه، لا تُجَار قريش ولا من نصرها".

رابعًا: البناء الاقتصادي

وتحقق ذلك بإنشاء السوق الإسلامية بالمدينة؛ حتى لا يقع المسلمون تحت السيطرة الاقتصادية لأعدائهم، وحتى يكون للمسلمين تميزهم الاقتصادي الذي يرتبط بالقيم الإيمانية والأخلاقية في الإنتاج والاستهلاك والتداول والتوزيع والاستثمار وفي كل نواحي ومجالات الاقتصاد، بخلاف الاقتصاد اليهودي القائم على الربا والغش والاحتكار، وظلم الفقراء والضعفاء.

خامسًا: البناء العسكري

وفي أعقاب الهجرة إلى المدينة، وتصاعد الموقف الحربي بين المدينة والقوى الوثنية،  ونزول الآيات القرآنية بالإذن بالقتال المسلح، بدأ الرسول– صلى الله عليه وسلم- يجهز جيشه العسكري ويقوم بتكوين المقاتل المسلم، بعد قوة الإيمان والأخوة على قوة الساعد والسلاح، ومزيد من التدريب والمهارات العسكرية مع التوجيه المعنوي المستمر.

وبذلك قامت الدولة الإسلامية القوية التي تشعر بالتبعة، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام، والاقتصاد فيه، وتقوم بواجباتها بصيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة، وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة في ربوع العالمين، ومن هنا استحقت الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والمال، وكتب الله لها العزة والسيادة بين الأمم.

----------

* المراجع: 

- بستان الدعاة/ الشيخ السيد عسكر.

- السيرة النبوية/ د. علي الصلابي. 

- قبسات من الهجرة النبوية المباركة/ أ. محمد فتحي.

- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا.