إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدًا

أما بعد...

فإن من أول ما يحرص عليه العاقل، ومن أحق ما يعض عليه بكل ما يملك علاقته بالله سبحانه، ورصيد حسناته وصالح أعماله التى وفقه الله إليها فى سابق زمانه، والتى يرجو نفعها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}

وفى وقت الفتن والأزمات، عندما يختلف الأخيار الفضلاء أهل السبق والجهاد، حينما يتنازع الصالحون، وتختلف كلمتهم، وتتفرق أراؤهم واتجاهاتهم، فإن أول ما يحتاجه العبد أن يطلب النجاة لنفسه، فربما سبقت لهؤلاء الأفاضل من الله الحسنى، وغفر لهم بجميل سابقة أعمالهم، أو أنهم يحدثون توبة عما بدر منهم وقت الأزمات والفتن، ولكن العبد الصادق التوجه إلى مولاه يخشى على نفسه، ويتورع عن الانزلاق إلى مهاوى الفتن ومضلاتها، وفى الحديث عن المقداد بن الأسود قال: أيم الله سمعت رسول الله ﷺ يقول: {إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلى فصبر فواهًا} رواه أبو داوود .

وأعظم ما يبتلى فيه الناس وقت الفتنة إهدار حقوق الأخوة، والإعجاب بالعقل، وغلبة الهوى.

يقول ابن تيمية: (ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين من بعدهم إلى يوم الدين ـ أهل البيت وغيرهم ـ قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين، طائفة تعظمه، فتريد تصويب ذلك الفعل، واتباعه عليه، وطائفة تذمه، فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد). فكل قول معروض على الوحيين الكتاب والسنة، فما وافق ودعمه الدليل أخذ به، وما خالف فيرد على قائله، ولا تعرض الأقوال ولا تناقش ولا يتناولها إلا من كان متأهلا، من أهل الاختصاص من العلماء، ولا يفتح المجال للرويبضة، وهم السفهاء الذين يتكلمون في أمور العامة بلا علم ولا دين.

- فأول الواجبات تعظيم حقوق الأخوة، ورعاية جانبها والحذر كل الحذر، فهذا وقت امتحانها، وذلك باب الشيطان وسبيله الذي يطمع فيه، فقد يزين لك إهدار الحقوق بداعي الخطأ، ويهون عليك الوقوع فى أعراض الناس واتهامهم وسوء الظن فيهم لأوهى دليل، ولشبهة لا حقيقة لها، ويعظم أمام عينيك عيوب غيرك، وينسيك أننا كلنا ذوو أخطاء وعيوب:   

                 فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها      كفى المرء نبلا أن تعد معايبه 

ومن المعلوم أن أولى الناس برعايتك لحقوقه أخوك إذا زلت به الطريق، أو تعثر فى الرأى، أو انكشفت لك سوءته. ولنتذكر أن الله سبحانه قد حرم الغيبة، وحرم البهتان، وحرم تحقير المؤمن، وحرم أذيته، وحرم الظلم، وحرم النميمة، وحرم الفضيحة، وحرم التدابر، وحرم المشاركة فى كل ذلك والرضا به، وحرم كل ما يهدر الأخوة والحب والتآلف بين المؤمنين. وقد قال-سبحانه- إجمالًا: {إنما المؤمنون إخوة} ولا ينفك هذا الوصف ولا يتحلل المؤمن من تلك الحقوق بمثل ما يقع بين الناس من الخلاف.

 وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)  فمن وقر في قلبه معاني هذه النصوص واستحضر عظمة المسلم عند الله، وماله من الحرمة أحجم عن أذية أخيه المسلم بقول أو فعل في نفسه أو ماله أو عرضه، وعظم حرمته ورعى حقه، وأما من لم يرفع بكلام الله ورسوله رأسا، ولم تستقر هذه المعاني في قلبه، وحمل بين جنبيه نفسا عدوانية شيطانية، فإنه لا يراعي للمسلمين حرمة ويسعى في هتك أعراضهم والاعتداء على حرماتهم، فقد أشبه من قال الله فيهم: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } وهذا هو حال الفتن إذا حصلت بين المسلمين.