(إن الله ميَّزكم بالانتساب إلى الدعوة؛ فاحرصوا على التميز بآدابها وشعائرها بين الناس، وأصلحوا سرائركم، وأحسنوا أعمالكم، واستقيموا على أمر الله، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتوجهوا بالنصيحة في رفقٍ ولينٍ إلى الناس أجمعين، واستعدوا للبذل والاحتمال، والجهاد بالنفس والمال، وأكثروا من تلاوة القرآن، وحافظوا على الصلوات في الجماعات، واعملوا لوجه الله تعالي مخلصين له الدين حنفاء، وانتظروا بعد ذلك تأييد الله وتوفيقه ونصره، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج) كلمات غاليات، تفيض بالحكمة والتوفيق، وجهها الإمام البنا رحمه الله إلى إخوانه، وفيها كثير مما يحتاجه الناس اليوم، وكل يوم. 

ولنا أن نرتشف من رحيقها رشفةً واحدة، عن ذلك المعنى المتكرر فى كلمات الإمام البنا، وهو شرف الانتساب إلى الدعوة.

فإن تقدير الإنسان لذاته ورؤية فضل الله عليه والاعتراف بنعمه كل ذلك يمثل شرطًا أصيلًا من شروط الاستقامة، وحدًا فاصلًا بين الجد والهزل، ومناعةً فطريةً تحول بين المرء وكثير من الانحرافات، وقد ذكر المفسرون ومنهم القرطبى فى قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، أي انشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، (أما بنعمة ربك) قال بالقرآن وعنه قال: بالنبوة، أي بلغ ما أرسلت به، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والحكم عام له ولغيره، فقد وجب على كل مسلم أن يحدث بنعمة الله عليه، ويشكره عليها، وذلك لاحق بالضرورة لاعترافه بها، ورؤية فضل الله عليه فيها.  وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: إذا أصبت خيرا، أو عملت خيرا، فحدث به الثقة من إخوانك.

 وعلى الجانب الآخر، حين يغيب ذلك التقدير والاعتراف عن الوعى، أو يجحده صاحبه، فإنه يصير لقمةً سائغةً للشياطين، تتقاذفه بلا رحمةٍ ولا تأنٍ فى بحور الغَوايات، وتلعب به على طرقات الانحرافات والضلالات، وتزين له المعاصى والارتكاسات، وأول ما يصيب ذلك الجاحد إثمُ جحود النعمة، ومن ثم غيابُ الشكر الواجب عليها، وبعد ذلك إثم استهانته بما كرم الله، وإثم وضعه ما رفع الله، فقد كرم الله المؤمنين، وجعلهم ورثة الأنبياء فى تحمل الدعوة، لا سيما أتباع خاتمهم وأعظمهم، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فرفع بهذا التكليف قدرهم، وأشركهم مع صفوة خلقه فى مهمتهم، فمن غابت عنه تلك النعمة، أو كفر بها من بعد علمه وإيمانه، فقد خسر خسرانا مبينا.

وهكذا يلف الشيطان حباله حول رقبة العبد الجاحد لهذه النعمة الكبرى الجاهل بها، ولقد أخبرنا ربنا أن طريق الشيطان خطوات متتالية، مبنيّ بعضها على بعض {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ} ومن طبيعة الخطوات أن تسلم السابقة إلى اللاحقة فى تعاقب يقود إلى نهاية، وفى تسلسل منتظم، وهكذا يعمل الشيطان! 

وحين يتمكن الشيطان من ذلك العبد الجاهل نعمة وشرف انتسابه إلى الله ودعوته، فإنك تراه يأتى من الأخلاق أسوأها، وإذا به شخص غير الذى كان، فلا كلماته كلمات الدعاة والمؤمنين، ولا أخلاقه أخلاقهم، ولا مرجعياته، ولا أدلته، ولا استدلاله، ولا طريقته، ولا سمته، ولا نظراته، ولا خصومته، ولا صداقته، لقد انسلخ من كل هذا، وارتكس، وانقلب على نفسه وقيمه وثوابته، ونسى ما كان يدعو ويردد بين الناس. ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

وأول ما يقطع على الشيطان طريق غَوايته تلك أن يؤمن أصحاب الدعوة بشرف انتسابهم إليها، وحقيقة مكانتهم التى أرادها الله لهم، فلا تصغر أنفسهم فى أعينهم، ولا يستطيعون أن ينزلقوا إلى سفلة الأعمال والأقوال، ولا تخالطهم سيئات الأخلاق، إنهم يتنزهون بالكلية عن كل نقيصة، ويجتهدون فى تحليهم بأوصاف الأنبياء والصديقين، فإن زلت بهم القدم، أسرعوا العود الجميل، وإن اجتالتهم الشياطين تذكروا، فإذا هم مبصرون. لهم من شرف الانتساب مانع عن الشر، وحاجز عن الهلاك، وسد عظيم بينهم وبين الرذائل، فإذا هم أناس بين الناس، لكنهم فى سماوات مجدهم محلقون، وعلى دربهم يتسابقون، وفى فضائل الخصال وجليل الأعمال منشغلون، لا تلهيهم الدنيا بما فيها، ولا يشغلهم ما يشغل غيرهم.   

إنهم يؤمنون بعظيم فضل الله عليهم حين اختارهم لحمل رسالته، ووفقهم للقيام بواجباتها، فجعلهم فى هذه السبيل، سبيل الأنبياء والمرسلين، وزينهم بالوحى، وأجرى على أياديهم هداية الناس. فكانوا الدعاة إلى الله، الآخذين بأيدى الناس إلى الجنة والمغفرة بإذن ربهم، والناصرين دينه، والرافعين لواءه، إنهم سهام القدرة العلية، وبقية المهاجرين والأنصار، ومن كان هذا حاله، فماذا تنتظر منه، وماذا تتوقع له؟

لذلك تكررت فى كلمات الإمام المؤسس -رحمة الله عليه ـ تلك المعانى الأصيلة، لأنها تبنى الأساس الصلب لشخصية الداعية، وتشكل السياج الطبيعى الذى يحميه من كثير من الشرور والآثام، وتضعه فى مواجهة مسئوليته بكل رجولة ووضوح، وتوفر على الدعوة ورجالها سنواتٍ من الوعظ والإرشاد، والجهود والأموال، والأنشطة والتجمعات، ذلك أن الباعث الذاتى عند الداعية المؤمن بسمو دعوته وشرف انتسابه، يفوق كل مجهود خارجى، وتتضاعف معه نتائج الإصلاح، وتغدو كلمات التوجيه عنده سيلًا مباركَا يحمل الخير إلى الأرض الطيبة ليسقى أشجارها الطيبة التى تؤتى أكلها كي حين بإذن ربها.