ضرورة ترتيب الأولويات

نواصل دراستنا وتحليلنا لأسباب الاختلاف بين الجماعات أو التجمعات الإسلامية التي تعمل فى حقل الدعوة لنتوصل الى الطريق السليم لتحقيق الوحدة و التعاون بينها.

فقد ذكرنا أنه مما يختلف عليه الأهداف التى قامت لتحقيقها تلك الجماعات و التجمعات، وأوضحنا أن هناك أهدافاً جزئية وهدفاً كلياً أكبر يَجُبُّ هذه الأهداف الجزئية وهو إقامة الدولة الإسلامية العالمية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية، أو بتعبير آخر التمكين لدين الله فى الأرض، وقلنا إن المصلحة تقتضي أن يكون تحقيق الأهداف الجزئية متمماً للخطة العامة الكلية في تنسيق وتعاون بين العاملين دون تضاد أو تشكيك أو تجريح .

ونبحث هنا سبباً آخر مما يحدث حوله الخلاف أو الاختلاف وهو فهم الإسلام، والأصل أن نعود جميعاً بفهمنا للإسلام إلى الفهم الصحيح الكامل الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقه هو ومن خلفه من الخلفاء الراشدين دون اجتزاء، أو انحراف، أو خطأ، خاصة وكما أوضحنا أن الهدف الأكبر الذى يجب أن نجتمع عليه هو التمكين لدين الله في الأرض وهذا ما تمليه علينا طبيعة المرحلة بعد سقوط الدولة و الخلافة، فلا يتصور أن تقدم الجهود و التضحيات بالأنفس والأموال للتمكين للدين بفهم ناقص للإسلام أو فهم فيه اجتزاء أو انحراف أو خطأ .

ومعلوم أن هناك أصولاً في الدين وهناك أيضاً فروع، و الواجب الالتزام بالأصول وعدم الحيدة عنها ودون مغالاة أو تفريط، أما فروع الدين فيمكن أن يكون حولها اختلاف لأسباب متعددة ذكرها الإمام الشهيد فى رسالة دعوتنا حيث قال: ( نحن نعتقد أن الخلاف فى فروع الدين أمر لابد منه ضرورة ولا يمكن أن نتحد فى هذه الفروع والآراء و المذاهب لأسباب عدة :

منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه وإدراك الدلائل و الجهل بها و الغوص على أعماق المعانى، وارتباط الحقائق بعضها ببعض و الدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل و الرأى فى حدود اللغة وقوانينها، و الناس فى ذلك جد متفاوتين فلابد من خلاف .

ومنها سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك، والآخر شأنه كذلك، وقد قال مالك لأبى جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى الأمصار وعند كل قوم علم فإذا حملتهم على ر أي واحد تكون فتنة .

ومنها اختلاف البيئات حتى أن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعى رضى الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر وهو في كليهما آخذ بما استبان له واتضح عنده، لايعدو أن يتحرى الحق فى كليهما .

ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين لها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسك، وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحاً عند غيره لما علم عن حاله .

ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد مثلاً وذاك لا يقول معه بهذا وهكذا .

ثم يقول رضي الله عنه: كل هذه الأسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد فى فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشى الأزمان، وهو لهذا سهل، مرن، هين، لين، لاجمود فيه ولا تشديد، نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا فى بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لايكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته. ألسنا مسلمين وهم كذلك ؟ وألسنا نحب أن ننزل على  حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك ؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا ؟ ففيم الخلاف إذاً ؟ ولماذا لايكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا ؟ ولماذا لا نتفاهم فى جو الصفاء و الحب إذا كان هناك ما يدعو الى التفاهم ؟ .

وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها كالأذان الذى ينادى به خمس مرات في اليوم الواحد، ووردت به نصوص وآثار؛ فما بالك من دقائق المسائل التى مرجعها إلى الرأي والاستنباط .

وثم أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى الخليفة وشرطه الإمامة فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر . يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علماً، وفي كل دعوة حقاً وباطلاً، فهم يتحرون الحق ويأخذون به، ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم، فإذا اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين نسأل الله لنا ولهم الهداية .

ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله، يمكن أن نجمله في أن الإخوان يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأى، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل الحب ) .

هذا ما أوضحه الإمام الشهيد حول قضية الخلاف في الفهم في فروع الدين، وتخطياً لذلك فى سبيل التعاون وتضافر الجهود كانت عبارته المعروفة ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه )، ومن عجيب ما سمعت فهم أحد من يهاجمون الإخوان ويشككون فيهم بغير سبب قوله إن هذه العبارة مكيافيلية أي أنها تفيد أن الغاية تبرر الوسيلة، فقد فهم - غفر الله لنا وله - أن يعذر بعضنا بعضاً فيما خالفنا فيه وليس فيما اختلفنا فيه وشتان بين الفهمين .

وقد حرص الإمام الشهيد حسن البنا ألا يجمع الإخوان في الأمور الفرعية على رأي واحد وإلا تحولنا إلى فرقة، أو طائفة، أو مذهب معين، من وافقنا انضم إلينا ومن خالفنا ابتعد عنا ، ولكن لتسع الجماعة ما يسع الإسلام من اختلاف في الأمور الفرعية من آراء طالما أن الرأي لايتعارض مع أصل ولا يخرج صاحبه من الإسلام ، وإن كنا نتواصى بأن نأخذ بالرأى الأرجح والأقوى دليلاً ما أمكن .

ومن أجل أهمية وحدة الفهم للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية جعله الإمام البنا الركن الأول من أركان البيعة العشرة ووضع له أصولاً عشرين كإطار لهذا الفهم يحميه من الاجتزاء أو الانحراف أو الخطأ، وتثبت الأيام أحقية هذه الأصول العشرين كأساس لتوحيد فهم العاملين للإسلام، ومع ذلك نحن لا ندعى العصمة للإمام البنا فمن وجد في أي أصل من هذه الأصول مخالفة صريحة للإسلام فلا مانع من مناقشة ذلك بالدليل الواضح دون تعصب ولا تجريح .

وكان من حكمة الإمام البنا أن جعل الفهم ركناً من أركان البيعة ليتوحد فهم الإخوان جميعاً على هذا الفهم و الحيلولة دون ظهور مدارس فكرية مختلفة فى صفوف الجماعة من شأنها أن تمزق الوحدة وتشتت الجهود، لأن كل إنسان يعمل من منطلق ما اقتنع به من فهم؛ فالوفاء بالبيعة يقتضى الالتزام بهذا الفهم ، ويصبح كل أخ حارساً أميناً على هذا الفهم من أي انحراف أو تغيير وفاء لبيعته مع الله .

ومن هذا المنطلق كان التصدى لفكر التكفير حين ظهر داخل الأسوار ومفاصلة الأستاذ حسن الهضيبى رحمه الله لمن يصرون على اعتناق هذا الفكر، وكان لبحثه المعروف باسم ( دعاة لا قضاة ) الأثر الكبير في عدول الكثيرين عن هذا الفكر .

و الملاحظ أن بعض الجماعات أو التجمعات الإسلامية ركزت على جوانب من الإسلام وتعمقت في فهمها، وربما وصلت إلى درجة من التشدد أو المغالاة في الوقت الذى لم تعط هذا الاهتمام إلى جوانب أخرى فماذا يضيرنا جميعاً مادمنا صادقين وجادين في العمل لتحقيق الخير للإسلام و المسلمين و التمكين لهذا الدين فى الأرض وليسترد المسلمون مكانتهم وعزتهم وسيادتهم أن نأخذ بهذا الفهم الشامل الصحيح للإسلام بتكامل واعتدال دون اجتزاء ولا تشدد ولا مغالاة ، ونحسن عرضه وجمع الناس عليه بعد أن حاول الأعداء وأعوانهم تشويه صورته ليرتبوا على ذلك عدم صلاحيته لهذا الزمان .

ندعو الصادقين المخلصين إلى تجاوز الخلاف فى الفهم فى الفرعيات ليتم التعاون الكامل لتحقيق الهدف العظيم الذى أوضحناه سابقاً وهو إقامة الدولة الإسلامية العالمية أو التمكين لدين الله فى الأرض وبالله التوفيق و العون .

منقول بتصرف من كتاب – وحدة العمل الإسلامي في القطر الواحد – للأستاذ مصطفى مشهور  رحمه الله .