صور من محن الأولين :

محنة الإسلام في عهد النبوة :

والمحنة التي واجهت الإسلام في عهد النبوة لم تكن أقل ضراوة مما تعرضت له الرسالات والرسل من قيل إن لم تزدهم جميعاً...

كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم ... ثورة استهدفت نسف القواعد التي يقوم عليها المجتمع الجاهلي ....

فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها؛ فهو لا يقبل أنصاف الحلول ولا أرباعها، ويرفض المساومة والترقيع ... وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء ... هدم الجاهلية بكل مرافقها وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها .

وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه سلم  فبدهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار حتى بلغ تحدى المشركين وحربهم للإسلام والمسلمين حداً لا يوصف .

- حرب الأعصاب :

تفنن أهل الجاهلية في حرب محمد، وابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، وحشدوا كل قواهم لعرقلة المسيرة القرآنية ....

فعمدوا أولاً إلى أسلوب نفسي خسيس يستهدف تدمير أعصاب الرسول صلى الله عليه وسلم والقضاء على روحه المعنوية العالية وشنوا لذلك حملات عنيفة من السخرية والاستهزاء عرض لها القرآن الكريم في أكثر من موضع { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } الإسراء 9..

وعندما فشلت هذه الأساليب الخسيسة عمد المشركون إلى اختلاق الشائعات والتهم على رسول الله وبثوها في كل الأوساط ليضعفوا الثقة به وليصدوا عن سبيل الله  ... لكم افتروا على من سموه  بالأمس صادقاً وأميناً ورموه بما ليس فيه ... ولكم سددوا سهامهم إلى نحر  الإسلام وأطلقوا حرابهم إلى صدر الحركة الإسلامية الفتية { وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال }( إبراهيم 46)

وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيد محمداً إلا صلابة وتصميماً.. صلابة في مواجهة التحدي كائنا ما كان نوعه ومداه، وتصميما على المضي مهما كانت التضحيات ...

قال الوليد بن المغيرة يوماً وهو زعيم الجاهلية وطاغية من طغاتها : ( يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر محمد هذا فأجمعوا فيه رأيا واحداً ولا تختلفوا؛ فيكذب بعضكم بعضاً.

قالوا : نقول كاهن.

قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان؛ فما هو بزمزمتهم ولا سجعهم.

قالوا: نقول مجنون.

قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته. 

قالوا : نقول شاعر .

قال : ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه؛ فما هو بشاعر.

قال الوليد بن المغيرة : إن أقرب القول فيه أن تقولوا هو ساحر .. يقول السحر فيفرق به بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته؛ فتفرقوا عنه بذلك ) وفي الوليد بن المغيرة هذا أنزل الله آيات  التهديد والوعيد لتكون له ولأمثاله على مر العصور عبرة قال تعالى { كلا إنه كان  لآياتنا عنيداً * سأرهقه صعوداً * إنه فكر وقدر * فقتل  كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم  عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر *  إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقى ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر }  ثم يعرض القرآن الكريم صوراً شتى من تحدي الجاهلية للحركة الإسلامية في العصر النبوي { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين * أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم  قوم طاغون * أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا  صادقين }.

- تعرض وإيذاء ومحاولات اغتيال :-

لم يكتف طغاة مكة بما تناولته ألسنتهم من كذب وافتراء على الإسلام وأهله بل لقد تجرءوا مراراً على النيل من نبي الإسلام نفسه والاعتداء عليه ، يئسوا من الحرب النفسية وحرب الأعصاب وحرب الشائعات فلجئوا إلى الحرب الحسية ينالون بها من دعاة الإسلام، وفجروا أحقادهم حُمما، وأضرموا نار العداوة والبغضاء في كل مكان تشفيا وانتقاماً ممن صبأ عن دين الآباء والأجداد وكفر بهبل واللآت ... ويجتمع سادة قريش يوماً في  ( الحجر ) ويذكرون محمداً وتحديه السافر لمقدساتهم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا وفرَّق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم وشتم آباءنا ... وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، فبينما هم  كذلك إذ مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به من  كل جانب وصاحوا به قائلين : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ فيجيبهم نبي الهدى بكل ثقة واعتزاز : ( نعم أنا الذي أقول ذلك ) يقولها بكل صراحة ويعلنها بملء فيه .. يصدع بها  كبرياءهم .. ويصفع طغيانهم ولقد أصابه منهم في ذلك اليوم ما أصابه وأدركهم أبو بكر  الصديق رضي الله عنه، وقد كادوا يجهزون عليه؛ فانبرى يدافع عنه ويقول ( أتقتلون رجلاً أن يقول  ربى الله ؟؟ )

ولما أوقع في أيدي المشركين .. وأعجزتهم الحيلة تداعوا إلى مؤتمر عقدوه في دار الندوة وكان المسلمون قد بدءوا  بالهجرة إلى المدينة وظنوا أن الفرصة قد سنحت للخلاص من محمد في غيبة من أصحابه وأتباعه ولما وضعوا خطتهم وحزبوا أمرهم كشف الله مكرهم ورد كيدهم { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وفي أعقاب الهجرة إلى المدينة وانتصار الإسلام على الجاهلية في بدر  استأجر صفوان بن أمية عمير بن وهب سراً وندبه للخروج إلى المدينة واغتيال محمد صلى الله عليه وسلم على أن يقضي صفوان له دَيْنه، ويكفل عياله، وقدم عمير إلى المدينة متوشحاً سيفه حتى دخل على الرسول وهو في المسجد؛ فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال له : ( ادن يا عمير ) فدنا ثم قال : أنعموا صباحاً وكانت تحية أهل      الجاهلية بينهم فقال الرسول : ( قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ... بالسلام ، تحية أهل الجنة فقال : أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد قال الرسول : ( فما جاء بك يا عمير )قال : جئت لهذا الأسير في أيديكم  فأحسنوا إليه ،

قال الرسول : فما بال السيف في عنقك ؟  

قال عمير :  قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً .

قال الرسول : اصدقني ما الذي جئت له ؟ 

قال عمير ما جئت إلا لذلك

قال الرسول : بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم  قلت: لولا دَيْن عليّ، وعيال عندي، لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك .

 فقال عمير  :أشهد أنك رسول الله  قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا  به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوا الله إني لأعلم أن ما أتاك به الله فالحمد الله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق ثم شهد شهادة الحق.

 

منقول بتصرف من كتاب -مشكلات الدعوة والداعية للأستاذ فتحي يكن – رحمه الله.