أولاً : معنى الغرور

هذه الآفة يبتلى بها بعض العاملين، وعليهم أن يعملوا جاهدين على التحرر منها، وعدم الوقوع فيها مرة أخرى إنما هي: الغرور ، ولكي يكون حديثنا عن هذه الآفة واضح الأبعاد ، محدد الملامح و المعالم سنجعله يدور على النحو التالي :

أولاً : معنى الغرور

لغة: يطلق الغرور في اللغة على عدة معان أهمها :

أ- الخداع سواء أكان للنفس أو للغير، أو للنفس وللغير معاً، تقول: غرّه، يغرّه ، غروراً أي خدعه ، وغرّ نفسه يغرها غروراً تعنى خدعها .

ومنه قوله تعالى: { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً }

ب- ما يؤدى إلى الغرور ، وما يوقع فيه، قال الجوهري: و الغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا .

ومنه قوله سبحانه { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } .

اصطلاحاً : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن الغرور : هو إعجاب العامل بنفسه إعجاباً يصل إلى حد احتقار أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجنب ما يصدر عنه ، ولكن دون النيل من ذواتهم أو الترفع على أشخاصهم .

ولا شك أن من كان بهذه المثابة فهو مخدوع، وتبعاً لذلك فإننا يمكن أن نفهم مدى التلاقي بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي .

ثانياً : أسباب الغرور

ولما كان الغرور شدة الإعجاب بالنفس، فإن أسبابه التي تؤدى إليه وبواعثه التي توقع فيه هي في جملتها أسباب الإعجاب بالنفس ويزاد عليها :

( 1 ) إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة :

إذ قد يكون السبب في الغرور إنما هو إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة ذلك أن بعض العاملين قد يبتلى بالإعجاب بالنفس ولإهماله نفسه من التفتيش والمحاسبة يتمكن الداء منه ويتحول إلى احتقار أو استصغار ما يقع من الآخرين بالإضافة إلى ما يقع منه وبذلك يصير مغرورا ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بالتفتيش في النفس ومحاسبتها أولا بأول :

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }

(2) الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين:

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين :

ذلك أن بعض العاملين قد يصاب بآفة الإعجاب بالنفس ويكون من ضعف الإرادة وخور العزيمة وفتور الهمة بحيث لا يستطيع التطهر بذاته من هذه الآفة وإ نما لابد له من متابعة الآخرين ووقوفهم بجواره وأخذهم بيده وقد لا يلتفت الآخرون إلى ذلك فيقعدون عن أداء دورهم وواجبهم وحينئذ تتمكن هذه الآفة من النفس وتتحول بمرور الزمن إلى غرور والعياذ بالله 0

ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على النصيحة حتى جعل الدين كله منحصرا فيها وراجعا إليها: إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) قلنا : لمن ؟ قال : الله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسمين وعامتهم ) ولعله السر أيضا في دعوته إلى التضامن والتعاون بين المسلمين: إذ يقول الله تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى } ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه ).

(3) الغلو أو التشدد في الدين :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الغلو أو التشدد في الدين ذلك أن بعض العاملين قد يقبل على منهج الله في غلو وتشدد وبعد فترة من الزمان ينظر حوله فيرى غيره من العاملين يسلكون المنهج الوسط فيظن لغفلته أو عدم إدراكه طبيعة هذا الدين أن ذلك تفريط منهم، أو تضييع، ويتمادى به هذا الظن إلى حد الاحتقار والاستصغار لكل ما يصدر عنهم بالإضافة إلى ما يقع منه وذلك هو الغرور.

ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى الوسطية، بل تحذيره من الغلو أو التشدد في الدين :

إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرهط الذين عزموا على التبتل واعتزال الحياة: ( أنتم قلتم كذا وكذا : أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى ) ويقول: ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثا يعنى: المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ) ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ... الحديث )

(4) التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهمال العمل :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو التعمق في العلم لاسيما غرائب المسائل وشواذهامع إهمال العمل: ذلك أن بعض العاملين قد يكون كل همه التعمق في العلم لاسيما غرائب المسائل وشواذها مع إهماله العمل، وربما لاحظ أثناء طرح هذه المسائل غفلة بعض العاملين عنها وعدم إلمامهم بها إنما لأنها ثانوية لا يضر الجهل بها، وإما لأنه لا يترتب عليها عمل فيخطر بباله أن هؤلاء لا يتقنون من مسائل العلم شيئا، وإن أتقنوا فإنما هو قليل في جانب ما لديه من الغرائب والشواذ، وما يزال هذا الخاطر يتردد في نفسه ويلح عليه حتى يتحول إلى احتقار واستصغار ما لدى الآخرين بالإضافة إلى ما عنده وذلك هو داء الغرور .

ولعل ذلك هو السر في دعوة الإسلام إلى أن يكون السعي في طلب العلم دائما حول النافع والمفيد؛ إذ كان من دعائه صلى الله عليه وسلم( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها ) بل في تأكيده على أن يكون هذا العلم مقرونا بالعمل وإلا كان الهلاك والبوار إذ يقول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }.

{ أتأمرون الناس بالير وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون }

وإذ يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :( يجيئ بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه )

(5) الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات ذلك أننا جميعا بشر وشأن البشر سوى النبيين الصواب والخطأ وإذا غفل العامل عن ذلك فإنه كثيرا ما يقف عند الطاعة أو الصواب في الوقت الذي ينسى فيه المعصية أو الخطأ وتكون العاقبة الإعجاب بالنفس المقرون باحتقار ما يقع فيه الآخرون إلى جانب ما يصدر عنه وهذا هو الغرور

ولقد لفت المولى سبحانه وتعالى النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث وهو يمدح صنفا من المؤمنين يؤدى الطاعة ويخاف أن يكون قد وقع منه ما يحول بينه وبين قبولها فقال : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } تقول عائشة رضى الله تعالى عنها قلت يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : ( لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل )

كما لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك حين دعا إلى أن يكون التعويل بعد الفراغ من العمل على فضل الله ورحمته لا على العمل نفسه، وإلا كان الغرور والضياع فقال: ( لن ينجي أحدا منكم عمله ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة والقصد تبلغوا ) وقد عبر عن ذلك كله بوضوح سيدنا عبد الله بن مسعود حين بين أثر تذكر الذنب ونسيانه على سلوك الإنسان فقال: ( إن المؤمن من يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي نحاه بيده ودفعه عنه )

(6) الركون إلى الدنيا :

وقد يكون السبب في الغرور هو الركون إلى الدنيا: ذلك أن بعض العاملين قد يفطن إلى أنه مبتلى بآفة الإعجاب بالنفس بيد أنه لركونه إلى الدنيا وانغماسه فيها ربما يعتريه الكسل فلا يستطيع أن يجمع همته لمداواة نفسه، بل قد يأخذ في التسويف وتأخير التوبة، وبمرور الزمن يتحول الإعجاب بالنفس إلى داء أكبر وأبعد ألا وهو الغرور.

وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث من خلال ذم الدنيا والتحذير منها إذا اتخذها الناس هدفا أو غاية فقال { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما }

{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا } { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون }

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله وأشعت رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ) وقلما كان صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه:

( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منها، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) .

ولقد وعى سلف الأمة ما يجره الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها على المرء من وبال فأعرضوا عنها إلا بمقدار ما يتزودون منه للآخرة، وجرى ذلك كثيرا على ألسنتهم يقول علي رضى الله تعالى عنه :_

( ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهم بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل ) .

ويقول الحسن رحمه الله :-

( من نافسك في دينك فنافسه فيه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره ) .

ويصور بعضهم هذا الوعي وذلك الإحساس قائلا :

إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيّ وطنا

جعلوه لجة واتخذوا صالح العمال منها سفنا

7- رؤية بعض ذوى الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو رؤية بعض ذوى الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها .

ذلك أن بعض ذوى الأسوة والقدوة قد ينزلون لسبب أو لآخر عن الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها من أخذ أنفسهم بالعزيمة في غالب الأحيان إلى حال أقل منها من أخذ أنفسهم بالرخص في بعض الأوقات .

وربما رأي ذلك من يحاول الاقتداء والتأسي بهم ولقلة رصيده من الفقه أو لعدم اكتمال تربيته يتوهم أو يظن أنهم بذلك دونه في العمل بمراحل ويظل هذا الوهم أو هذا الظن يلاحقه ويلح عليه حتى يتحول والعياذ بالله إلى الإعجاب بالنفس ثم الغرور .

ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى البعد عن مواطن التهم من خلال بيان وجه حق في سائر التصرفات المباحة التي ربما تؤدى إلى سوء الظن :

عن صفية بنت حييّ زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنها، أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم ( على رسلكما: إنما هي صفية بنت حييّ )فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم _( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ) .

وصلى يزيد الأسود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال: ( ما منعكما أن تصليا معنا )؟ قالا : قد صلينا في رحالنا فقال: لا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة ) .

ولذا قال ابن دقيق العيد .

وهذا أي التحرز من كل ما يوقع في التهم متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحق للمحكوم عليه إذا خفي عليه، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم ).

8- مبالغة بعض العاملين في إخفاء ما يصدر عنهم من أعمال:

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو مبالغة بعض العاملين في الإخفاء ما يصدر عنهم من أعمال :

ذلك أن بعض العاملين قد يحمله الحرص على تحقيق معنى الإخلاص إلى أن يبالغ في إخفاء ما يصدر عنه من عمل؛ فلا يظهر منه إلا أقل القليل، وربما لا حظ أو رأي بعض من لم تتضح تربيتهم بعد هذا الذي يظهر فقط فيتوهم أن عمل هؤلاء قليل في جنب عمله، ويظل هذا الوهم يساوره ويلح عليه؛ حتى يقع في أحبولة الإعجاب بالنفس ثم الغرور .

ولعل دعوة الإسلام إلى إبراز الأعمال الطيبة والتعرض بها للناس فوق كونها تحريضا لهم على الاقتداء والتأسي فيها إشارة إلى هذه السبب أو إلى هذا الباعث مع بيان طريق الخلاص منه : إذ يقول الله تعالى:

{ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم.... .....}.

وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم _:

( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ).

( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء .... الحديث )

9- تفرقة بعض ذوى الأسوة والقدوة في معاملة المتأسين أو المقتدين :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هي: تفرقة بعض ذوى الأسوة والقدوة في معاملة المتأسين أو المقتدين :

ذلك أن بعض ذوي الأسوة والقدوة قد تغيب عن بالهم الأسلوب الأمثل في معاملة المتأسين أو المقتدين فتراهم يقربون البعض ويفسحون صدورهم له ويتغاضون عن هفواته وأخطائه في الوقت الذي يعرضون فيه عن البعض الآخر ويضيقون به ذرعا، ويفتحون عيونهم على أدنى الهفوات والزلات التي تقع منه، وربما كان في الصنف الأول من لم تكتمل تربيتهم، ولم تنضج شخصايتهم بعد، ويشاهد هذه الفرقة في المعاملة فيخطر بباله أنها نابعة مما لديه من إمكانات ومواهب لا توجد عند الآخرين، ويظل هذا الخاطر يلح عليه حتى يكون الإعجاب بالنفس ثم الغرور .

ولقد سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب من خلال حرصه على معاملة أصحابه بالسوية إذ كان من هديه صلى الله عله وسلم كما يقول واصفوه :

( أن يعطى كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ) .

ويوم أن كانت الحاجة تلجئه صلى الله عليه وسلم إلى التفرقة في المعاملة ولا يفهم جليسه الحكمة من وراء ذلك يبين صراحة إذ يروى سعد بن أبى وقاص فيقول :

( أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فترك رجلا هو أعجبهم إليّ فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( أو مسلما ) فسكتّ قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت : مالك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( يا سعد إني لأعطى الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار )

ـ من كتاب "آفات على الطريق" لفضيلة الدكتور السيد نوح رحمه الله.