الرياء أو السمعة

الرياء أو السمعة آفة يبتلى بها بعض العاملين والتي تعد من أخطر الآفات وأشدها فتكا بهم، وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم فورا للتخلص والتطهر منها وإلا ضل سعيهم في الدنيا والآخرة إنما هي: الرياء أو السمعة .

ولكي يكون لدينا تصور واضح أو قريب من الواضح عن هذه الآفة وآثارها وسبيل الخلاص منها فإننا سنتناولها على النحو التالي :

أولا : مفهوم الرياء أو السمعة :

الرياء والسمعة لغة : الرياء في اللغة مشتق من الرؤية تقول: راءى الرجل : إذا أظهر عملا صالحا ليراه الناس ومنه قوله تعالى : { يراءون ويمنعون الماعون } { بطرا ورئاء الناس }

والسمعة مشتقة من سمّع يقول: سمّع الناس بعمله أي أظهره لهم بعد أن كان سرا .

الرياء والسمع اصطلاحا : أما مفهوم الرياء أو السمعة في اصطلاح الدعاة وعلماء السلوك والأخلاق : فهو إطلاع المسلم الناس على ما يصدر منه من الصالحات طلبا للمنزلة والمكانة عندهم، أو طمعا في دنياهم، فإن وقعت أمامهم ورأوها فذلك هو الرياء، وإن لم تقع أمامهم لكنه حدثهم بها فتلك هي السمعة، وفرق العلامة عز الدين بن عبد السلام بين الرياء والسمعة قائلا :

الرياء: ( أن يعمل لغير الله والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس ) وكأنه يرى أن الرياء كله مذموم أما السمعة فقد تكون مذمومة إذا قصد بالحديث عن عمله وجه الناس ، ومحمودة إذا قصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته وذلك الذي قاله ابن عبد السلام هو ما تصدقه النصوص الشرعية إذ يقول الله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس } وإذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به ) ، ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا فانظروا : هل تجدون عندهم الجزاء ؟ ) وإذ يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فيقول : ( إنه أواب ) فإذا هو المقداد بن الأسود .

ثانيا: أسبابه أو بواعثه

هذا وللرياء أو السمعة أسباب أو بواعث توقع فيه وتؤدي إليه نذكر منها :

(1) النشأة الأولى :

إذ قد ينشأ الولد في أحضان بيت دأبه وديدنه الرياء أو السمعة؛ فما يكون منه إلا التقليد والمحاكاة، وبمرور الزمن تتأصل هذه الآفة في نفسه، وتصبح كأنما هي جزء لا يتجزأ من شخصيته، ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بأن يكون الدين هو أساس اقتران الرجل بالمرأة إذ يقول صلى الله عليه وسلم ( فاظفر بذات الدين تربت يداك ) ( وإذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ).

(2) الصحبة أو الرفقة السيئة :

وقد تحتويه صحبة أو رفقة سيئة لا هَمّ لها إلا الرياء أو السمعة؛ فيقلدهم ويحاكيهم لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية، شديد التأثر بغيره، وبتوالي الأيام يتمكن هذا الداء من نفسه ويطبعها بطابعه، وذلك هو سر ما قدمناه فيما مر من آفات من ضرورة أن تكون الصحبة طيبة تحترم شرع الله وتعمل به .

(3) عدم المعرفة الحقيقة بالله عز وجل :-

وقد يكون عدم المعرفة الحقيقة بالله عز وجل هو السبب أو الباعث على الرياء أو السمعة؛ إذ إن الجهل بالله أو نقصان المعرفة به يؤدى إلى عدم تقديره حق قدره: ومن ثم يظن هذا الجاهل بالله الذي لم يعرفه حق المعرفة ولم يقدره أن العباد يملكون شيئا من الضر أو النفع فيحرص على مراءاتهم وتسميعهم كل ما يصدر عنه من الصالحات ليمنحوه شيئا مما يتصور أنهم مالكوه، ولعل ذلك هو السر في دعوة الإسلام إلى المعرفة بالله أولا: { فاعلم أنه لا إله إلا الله } بل تطبيقه ذلك حيث دار القرآن المكي وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم طوال المرحلة المكية حول التعريف بأصول العقيدة وتأكيدها وترسيخها في النفس .

(4) الرغبة في الصدارة أو المنصب :

وقد تدفع الرغبة في الصدارة أو في المنصب إلى الرياء أو السمعة حتى يثق به من بيدهم هذا الأمر فيجعلوه في الصدارة، أو يبوئوه المنصب، ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على اختيار أو ابتلاء الناس قبل الوثوق بهم أو الركون إليهم لا سيما إذا كانوا على حال تدعو إلى ذلك إذ يقول الله عز وجل: { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } { يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن }

(5) الطمع فيما في أيدي الناس :

وقد يحمله الطمع فيما بين أيدي الناس والحرص على الدنيا على الرياء أو السمعة ليثق به الناس وترق قلوبهم له فيعطونه ما يملأ جيبه ويشبع بطنه، وفي سؤال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم ( والرجل يقاتل للمغنم ) وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر ( من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى ) ما يشير إلى هذا السبب.

(6) إشباع غريزة حب المحمدة أو الثناء من الناس :

وقد يدعوه حب المحمدة أو الثناء من الناس إلى الرياء أو السمعة؛ حتى يكون حديث كل لسان، وذكر كل مجلس؛ فتنتفش نفسه وتنتفخ بذلك والعياذ بالله وإلى هذا السبب يشير بقية الحديث المتقدم : ( .... والرجل يقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه من في سبيل الله ؟ ...)

(7) شدة ذوى المسئولية في المحاسبة :

وقد تكون شدة ذوى المسئولية في المحاسبة هي السبب في الرياء أو السمعة لاسيما إذا كان هناك ضعف في الإرادة وفتور في العزيمة، وكأنه يحاول بهذا الرياء أو بهذه السمعة ستر ضعفه وفتوره، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إذ يقول لعائشة: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ).

(8) إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال :

وقد يكون إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال هو الباعث على الرياء أو السمعة كي يكون هناك مزيد من هذا الإعجاب .

وحتى يحمى الإسلام البشر من هذا الداء منع إبراز هذا الإعجاب فإن كان ولا بد فليكن معه الاحتراز والحيطة بأن يقول: (( أحسب فلانا كذا والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا )).

(9) الخوف من قالة الناس لا سيما الأقران :

وقد يكون الخوف من قالة الناس لا سيما الأقران هو الباعث على الرياء أو السمعة حتى يظهر أمامهم بالصورة التي ترضيهم وتسكت ألسنتهم عنه وإذا ما خلا بنفسه انتهك محارم الله { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا }.

(10) الجهل أو الغفلة عن العواقب أو الآثار الناجمة عن الرياء أو السمعة :

وأخيرا قد يكون الجهل أو الغفلة عن العواقب أو الآثار الناجمة عن الرياء أو السمعة هي السبب في مراءاة الناس أو تسميعهم فإن من جهل أو غفل عن عاقبة شئ ما لاسيما إذا كانت هذه العاقبة ضارة تعاطى هذا الشيء ولازمه حتى يصير خلقا له .

ثالثاً : سمات أو علامات الرياء أو السمعة

وحتى يدرك المسلم موقعه من الرياء أو السمعة فإن هناك سمات أو علامات يعرف بها وهذه السمات أو تلك العلامات هي :

(1) النشاط في العمل ومضاعفة الجهد إذا كان هناك ثناء أو مدح والكسل والتقصير إذا كان هناك عيب أو ذم .
(2) النشاط في العمل ومضاعفة الجهد إذا كان مع الناس والكسل والتقصير حال التفرد أو البعد عن الناس وإلى هاتين السمتين أو يشير سيدنا على رضى الله تعالى عنه : فيقول :
(( للمرائي علامات : كسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثنى عليه وينقص إذا ذم )).
(3) الحفاظ على محارم الله ورعايتها إذا كان مع الناس وانتهاك هذه المحارم والتطاول عليها إذا كان وحد أو بعيدا عن الناس وإلى هذه السمة أو العلامة يشير النبي صلى الله عليه وسلم قائلا :

(( لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) .

رابعا: آثار الرياء

وللرياء أو للسمعة آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي وإليك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب :

أ- آثار الرياء على العاملين :

فمن آثاره على العاملين :

1 - الحرمان من الهداية والتوفيق :

ذلك أن الله عز وجل هو وحده الذي يملك الهداية والتوفيق وهو وحده الذي يمن بهما على من يشاء ويمنعها ممن يشاء لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وقد مضت سنته وجرى قضاؤه أنه لا يمنحهما إلا لمن علم منه الإخلاص وصدق التوجه إليه { ويهدى إليه من أناب }. { ويهدى إليه من ينيب } والمرائي أو المسمع بدد هذا الإخلاص وضيع ذلك الصدق فأنى له الهداية والتوفيق؟ وصدق الله الذي يقول: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولله لا يهدى القوم الفاسقين }.

2 - الضيق أو الاضطراب النفسي :

ذلك أن المرائي أو المسمع إنما يفعل طلبا لمرضاة لناس، وطمعا فيما بأيديهم، وقد يحول قضاء الله وقدره دون تحقيق ذلك نظرا لأن الأمور عنده سبحانه تجرى بالمقادير : { وكل شيء عنده بمقدار }. وحينئذ يعتريه الضيق والاضطراب النفسي؛ فلا هو الذي ظفر برضا الله عز وجل، ولا هو بالذي حصل ما كان يؤمله ويرجوه من الناس : { ومن أعرض عن ذكرى الله فإن له معيشة ضنكا } { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } .

3 - نزع الهيبة من قلوب الناس :

ذلك أن الله وحده هو الذي يملك غرس هذه الهيبة في قلوب من يشاء من عباده بيد أن ذلك مرهون بتقديم الإخلاص بين يدي كل سلوك أو تصرف، والمرائي أو المسمع أضاع هذه الرهينة فيضيع الله عليه الهيبة ونزعها من قلوب الناس فصار هينا عليهم :{ ومن يهن الله فما له من مكرم }.

ولقد وعى السلف ذلك فكانوا أحرص الناس على الإخلاص العمل لله حتى تبقى هيبتهم ومكانتهم مستقرة في الصدور أو في القلوب، والأخبار الواردة عنهم في ذلك أكثر من أن تحصى، وحسبنا منها ما أوصى به عمر بن الخطاب - رضى الله تعالى عنه أبا موسى الأشعرى إذا قال له: (( من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس )).

وما أثر عن الحسن البصري من كثرة مجاهداته لنفسه بالليل والناس نيام ثم محاولة إخفاء ذلك عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا حتى هابه ذوو السلطان والجاه .

فقد نال من الحجاج - ذات مرة - لظلمه وطغيانه فوجه الحجاج بعض شرطه وأمرهم أن يأتوه به ليقتله، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسن فشخصت نحوه الأبصار، ووجفت عليه القلوب، واقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن وعزة المسلم ووقار الداعية، فلما رآه الحجاج على حاله هذه هابه أشدد الهيبة وقال له : ها هنا يا أبا سعيد ......... هاهنا ...... ثم مازال يوسع له ويقول : هاهنا .....والناس ينظرون إليه في دهشة واستغراب حتى أجلسه على فراشه ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج وجعل يسأله عن بعض أمور الدين والحسن فقال له الحجاج يجيبه عن كل مسالة بجنان ثابت وبيان ساحر وعلم واسع فقال له الحجاج : أنت سيد التابعين يا أبا سعيد ثم أذن له بالعودة إلى بيته معززا مكرما .

4 - الإعراض من الناس وعدم التأثر :

ذلك أن القلب هو محل التأثر من الإنسان والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن راءى أو سمع بعمله فقد قطع ما بينه وبين الله، وأنى لذلك أن يمنحه الله إقبالا من الناس أو تأثيرا فيهم لذا تره إذا تكلم لا يسمع، وإذا عمل لا يحرك، والحوار التالي يكشف لنا عن حقيقة ذلك بجلاء ووضوح :

كان عمر بن هبيرة الفزارى واليا على العراقين في عهد الخليفة الأموي: يزيد بن عبد الملك وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في هذه الكتب ولو كان مجافيا بحق أحيانا فدعا ابن هبيرة كلا من الحسن البصري وعامر بن شراحبيل المعروف بالشعبي يستفتيهما في ذلك وهل له من مخرج فيدين الله ؟

فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة، ومسايرة للوالي، والحسن ساكت، فالتفت عمر ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد ، وأن يزيد لا يمنعك من الله ... يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد ، وغنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد ... يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد بن عبد الملك في الدنيا والآخرة ، وإن تك مع يزيد في معصية الله تعالى فإن الله يكلك إلى يزيد .

واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائناً ما كان في معصية الخالق - عز وجل - فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته ومال عن الشعبي إلى الحسن ، وبالغ في إعظامه وإكرامه ، فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد ، فاجتمع عليهما الناس ، وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع أمير العراقين ، فالتفت الشعبي إليهم وقال : أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله - عز وجل - على خلقه في كل مقام فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لعمر بن هبيرة قولاً أجهله ولكنى أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة ، وأراد فيما قاله وجه الله ، فأقصاني الله من ابن هبيرة وأدناه منه وحببه إليه.

5- عدم إتقان العمل :

ذلك أن المرائي أو المسمِّع إنما يراقب الخلق لا الخالق ، و الخلق مهما كانت طاقاتهم وإمكاناتهم ، عاجزون عن المتابعة في كل بيئة وفي كل وقت ، وفي كل ظرف أو ملابسة ، لذا فإن عجزهم هذا ينتهي بالمرائي أو بالمسمِّع إلى عدم إتقان العمل ، الأمر الذي يفقده ثقة الناس ويكون بذلك قد ضيَّع نفسه من حيث أراد مصلحتها أو منفعتها ، وصدق الحق - تبارك وتعالى - إذ يقول { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }، ولقد أشار المولى - عز وجل إلى هذا الأثر وهو يتحدث عن المنافقين فقال: { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } .

6- الفضيحة في الدنيا وعلى رءوس الأشهاد يوم القيامة :

ذلك أن المرائي أو المُسمِّع إنما يقصد بعمله هذا خداع غيره ليعطيه هذا الغير زمامه، وليسلم إليه قياده، ويأبى الله - عز وجل - ذلك نظراً لما يمكن أن يصنعه هذا المرائي أو المسمع من إفساد في الأرض وإهلاك للحرث و النسل { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل والله لا يحس الفساد } .

لذا فإنه يفضحه في الدنيا ولو بعد حين؛ حتى يحذره الناس، ولا يغتروا به، أما في الآخرة فإن الفضيحة تكون مزيدا من الانتقام و العذاب .

وقد سبق التصريح بهذا السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد سأله عن الجهاد و الغزو : ( يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابراً محتسباً ، بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً ، بعثك الله مرائياً مكاثراً ، يا عبد الله بن عمرو على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تيك الحال ).

7- الوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس، ثم الغرور ثم التكبر :

ذلك أن المرائي أو المُسَمِّع يخدع كثيراً من الناس فترة زمنية معينة ، وخلال هذه الفترة تلهج ألسنة الناس وأفئدتهم بحمده و الثناء عليه ، وقد يحمله ذلك على الإعجاب بنفسه ، ثم الغرور ، ثم التكبر ، ثم يعيث في الأرض فساداً ، ويؤكد ذلك ما نشاهده في الوقت الحاضر من أن كثيراً من ذوى القيادة في أمتنا ، يسلكون سبيل الرياء و التسميع حتى إذا انخدع بهم الدهماء و العامة ، وسبحوا بحمدهم انقلبوا إلى معجبين بأنفسهم ، ثم مغرورين ، ثم متكبرين ، ثم سلطوا على الذين يفهمونهم منذ اللحظة الأولى يسومونهم سوء العذاب ، وأخيراً يسلطون على أولئك الذين ضيعوهم ، فيأكلونهم ، وصدق الله العظيم الذي يقول { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار }.

8- بطلان العمل :

ذلك أن الحق - سبحانه - مضت سنته في خلقه ألا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له ، وابتغى به وجهه { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } .و المرائي جعل لنفسه وللناس حظاً من عمله ، وأنى لذلك أن يقبل الله منه عملاً ، أو أن يثيبه عليه ، وصدق الله { وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلماً } { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - :( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا فانظروا : هل تجدون عندهم لجزاء ) ، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي :( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برئ وهو للذي أشرك ).

وهكذا ينتهي الرياء أو السمعة بصاحبه إلى بطلان العمل ورده وعدم قبوله .

9- العذاب الشديد في الآخرة :

وأخيراً ... فإن من حبط عمله على النحو الذي قدمنا ، ليس له من جزاء إلا العذاب الشديد في الآخرة ، ولذلك العذاب صور أبرزها صورتان :

الأولى: أنه يكون أول من تسعر بهم النار ، فإن وقودها كما قال الله في كتابه ، الناس و الحجارة ، { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة } ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم - إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ، رجل استشهد ، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جرئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجل تعلم العلم و علَّمه وقرأ القرآن ، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها ، فقال: ما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال إنك عالم ، وقرأت القرآن ليقال : قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال :ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى به في النار ).

الأخرى : الإلقاء في النار بحيث تخلع مفاصله وتتفكك أوصاله، وتسقط أمعاؤه، ويدور بها على مشهد ومرأى من أهل النار جميعاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار ، فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ؟ فيقول : بلى ، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ).

ب- آثار الرياء على العمل الإسلامي :

وإذا كان للرياء أو للسمعة تلك الآثار التي قدمنا على العاملين، فإنها بدورها تنعكس على العمل الإسلامي، وتتلخص هذه الآثار المتعلقة بالعمل الإسلامي فيما يأتي :

طول الطريق وكثيرة التكاليف :

ذلك أن قوماً أخلاقهم الرياء، وصفاتهم التسمّع لا يمكن أن يُمَكَّن لهم إلا بعد طول ابتلاء وكثرة تمحيص :

{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ... } ، { ... أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }، { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون } .

خامساً : طريق علاج الرياء و السمعة

هذا ... و الطريق لعلاج الرياء أو السمعة تتلخص في :

1- تذكر عواقب الرياء أو السمعة الدنيوية والأخروية على النحو الذي قدمنا آنفاً ، فإن ذلك له أثر كبير في تحريك القلوب، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ثم إقلاعها عن هذه الآفة، أو عن هذا الداء الخطير .
2- الانسلاخ من الصحبة المعروفين بالرياء أو بالسمعة، ثم الارتماء في أحضان المخلصين الصادقين، فإن ذلك له دوره في إقلاع النفس عن هذه الآفة حتى تبرأ منها تماماً .
3- معرفة الله - عز وجل - حق المعرفة، فإن هذه المعرفة تعين على تقدير الله حق قدره ، الأمر الذي يؤدى إلى التخلص من الرياء أو السمعة، ثم التحلي بالإخلاص، وسبيل ذلك معايشة الكتاب والسنة .
4- مجاهدة النفس، حتى تهذب من الغرائز التي تملي على الإنسان الرياء أو السمعة والتي من جملتها الرغبة في الصدارة أو المنصب ، وكذلك الطمع فيما في أيدي الناس ، وحب الثناء أو المحمدة .
5- رفق ذوى المسئولية في المحاسبة، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه .
6- الالتزام بأدب الإسلام في المعاملة فلا غلو في الاحترام و التقدير ، ولا إهمال ولا تقصير ، وإنما هو الأمر الوسط ، وخير الأمور أوساطها .
7- الوقوف على أخبار المرائين ، ومعرفة عواقبهم ، فإن ذلك مما يساعد على تجنب هذا الداء ، أو هذه الآفة ، لئلا تكون العاقبة كعاقبة هؤلاء .
8- دوام النظر أو السماع للنصوص المرغبة في الإخلاص، والمحذرة من الرياء، فإن بداية الإقلاع عن الأخطاء والالتزام بالصواب تكون بوضوح الرؤية ، ودقة التصور ، إذ من جهل شيئاً عاداه ، كما قال الله عز وجل{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } .
9- محاسبة النفس أولاً بأول للوقوف على عيوبها ، ثم التخلص من هذه العيوب .
10- اللجوء التام إلى الله ، والاستعانة به ، فإن من لجأ إلى الله واستعان به ، وكان صادقاً في ذلك ، أيده الله ، وأعانه ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خطب ذات يوم فقال:
( أيها الناس اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفي من دبيب النمل ، فقال له من شاء أن يقول ، وكيف نتقيه ، وهو أخفي من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : ( قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ).
11- التذكر بأن كل شيء يجري في هذا الكون بقضاء وقدر :

{ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } ، وأن الخلق مهما كانت قوتهم ، ومهما كان سلطانهم فإنهم عاجزون عن أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً، أو يدفعوا عنها ضراً فضلاً عن أن يملكوا هذا لغيرهم { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } ، { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً }.

ـ من كتاب "آفات على الطريق" لفضيلة الدكتور السيد نوح رحمه الله.