يقول الله تعالى في سورة النحل قولًا معجزًا، لا يكون إلا من الله رب العالمين؛ ففي آية واحدة يقول- سبحانه- مقررًا، ومبينًا، وشارطًا، ومعممًا، ومقيدًا، ومؤكدًا، ومتفضلًا، ومبشرًا، ومنذرًا. يقول- عز وجل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾  وللمفسرين الكرام- رضي الله عنهم- في هذه الآية الكريمة سياحات مهمة، وأقوال نافعة، نوردها، لعل الله ينفعنا بها. ولعلنا نهتدي بكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم.

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾  مَن عمل عملا صالحًا موافقًا للشرع، أو عمل عملا صالحا، بأن يكون خالصا لوجه الله- تعالى- وموافقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

﴿ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ﴾ ذكرًا كان أم أنثى، مع أن لفظ (َمن) في قوله: (مَنْ عَمِلَ) يتناول الذكور والإناث، فقد جاء التنصيص على النوعين، حتى يكون أغبط لهما، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم، وليعم الوعد النوعين جميعا.

﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ وهو مؤمن بالله ورسوله، فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، بل لا تسمى أعمالا صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتضٍ لها، فإنه التصديق الجازم المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

وقيد- سبحانه- العامل بكونه مؤمنا فقال: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله- تعالى- إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة، وكان صاحبه يدين بدين الإسلام، وقد أوضح القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: ﴿وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ﴾ 

﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ ﴾ حياة سعيدة مطمئنة، ولو كان قليل المال، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وذلك بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا من حيث لا يحتسب. أو أن الحياة الطيبة بالرضا بقضاء الله، وبالقناعة والتوفيق للطاعات، فهي حياة طيبة، يظفر معها بصلاح البال، وسعادة الحال.

وقال سعيد بن جبير وعطاء: هي الرزق الحلال، وقال الحسن: هي القناعة، وقال مقاتل بن حيان: يعني العيش في الطاعة، وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة، وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة، وروي عن الحسن: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.

 وقال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: هذا وعد من الله- تعالى- لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه))
وقيل المراد بالحياة الطيبة هنا: الحياة الأخروية، وقد صدر الشيخ الآلوسى تفسيره بهذا الرأى فقال: والمراد بالحياة الطيبة التي تكون في الجنة، إذ هناك حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة.
ويبدو لبعض المفسرين أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح، لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله- تعالى-: ((وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)) فلو فسرنا الحياة الطيبة بالحياة الأخروية لكان في الآية الكريمة ما يشبه التكرار، ولكننا لو فسرناها بالحياة الدنيوية لكانت الآية الكريمة مبينة لجزاء المؤمنين في الدارين.
وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم السابق: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا» يشير إلى أن المراد بالحياة الطيبة، الحياة الدنيوية، لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة.

وقد أورد القرطبى في الحياة الطيبة جملة أقوال، أنها الرزق الحلال، أو القناعة، أو توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله، وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها، أو هي الجنة، فلا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وقيل هي السعادة، أو هي حلاوة الطاعة، أو هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق، وقيل: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله، وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق، وقيل: الرضا بالقضاء .
قال صاحب الكشاف قوله: حَياةً طَيِّبَةً يعني في الدنيا، وهو الظاهر لقوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ.
وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا، يعيش عيشا طيبا، إن كان موسرا فلا مقال فيه، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله، وأما الفاجر فأمره على العكس، إن كان معسرا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرا، فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه.

﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ولنجزينهم ثوابهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة، لَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَجْرَهُمْ من أصناف اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، فهى حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح.

وعلى ذلك يكون المعنى الإجمالى للآية الكريمة: من عمل عملا صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة في الدنيا، يظفر معها بالسعادة وصلاح البال، والأمان والاطمئنان، أما في الآخرة فسنجزيه جزاء أكرم وأفضل مما كان يعمله في الدنيا من أعمال صالحة، فهذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة .والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت.

وعلى هذا فمن وجد حياته غير طيبة- بأية صورة كانت- فليراجع عمله! ولا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار حتى يجعل عمله صالحًا، ويجعل من نفسه ذلك المؤمن.