وحتى تستقيم النفس على قواعد الإسلام التوجيهية والتشريعية فلا يطغيها ترخص، أو يشقيها تكلف... وينبغي أن يراعى في ترويضها العوامل التالية :

لا تفريط ولا إفراط :

حرص الإسلام من أول يوم على رد النفس البشرية إلى فطرتها وفق منهج دقيق متناسق يحفظ للروح وللعقل والبدن حقوقهم من غير تفريط ولا إفراط، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تروض النفس ...فتنشأ طبيعية، وتنمو نمواً فطرياً، لا إسراف فيه ولا إسفاف ...ومثل الذين يسرفون في حقوق أبدانهم سواء بسواء ....أولئك لا يمكن أن تستقيم شخصيتهم وتتزن وفق مقاييس الإسلام وأصوله .

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار عبد الله بن عمرو بن العاص وكانت امرأته تلطف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كيف أنت يا أم عبد الله ؟ قالت كيف أكون وعبد الله بن عمرو قد تخلى عن الدنيا .قال لها :كيف ذلك ؟قالت : حرم لا ينام ولا يفطر ولا يطعم اللحم ولا يؤدي إلى أهله حقهم . قال :فأين هو ؟قالت :خرج ويوشك أن يرجع الساعة .قال :فإذا رجع فاحبسيه عليّ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبد الله  وأوشك رسول الله في الرجعة .فقال: يا عبد الله بن عمرو، ما هذا الذي بلغني عنك أنك لا تنام ؟قال :أردت بذلك الأمن من الفزع الأكبر . وقال: بلغني أنك لا تفطر .قال أردت بذلك ما هو خير منه في الجنة، وقال بلغني أنك لا تؤدي إلى أهلك حقهن .قال أردت بذلك نساء خيراً منهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :يا عبد الله بن عمرو إن لك في رسول الله أسوة حسنة، ورسول الله يصوم ويفطر، ويأكل اللحم ويؤدي إلى أهله حقوقهم . يا عبد الله إن لله عليك حقاً وإن لبدنك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً ).

فالداعية الموفق هو الذي يتابع قلبه بما يصلحه ويزكيه وينقيه، ولا يغفل عن مراقبة نفسه، ولا يقصر في محاسبتها عملاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ).

إلى ذلك أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا . وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر ). وهو إلى جانب ذلك لا يبخل على بدنه بما أحل له من طيبات المأكل والمشرب والملبس، حسبه في ذلك قول الله تعالي: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }.{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق }.

صحيح أن النفس أمارة بالسوء ....وأنها بحاجة إلى ترويض وإحجام حتى يسلس قيادها ولكن كما أن لنا عليها واجبات فإن لها علينا حقوقاً ... ومن طالبها بواجباتها سألته حقوقها ومن حرمها حقها جمحت به وأردته ....وهذا ما ينطق به مدلول الآية الكريمة: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }.

ويقول الأستاذ الشهيد سيد قطب في تفسير هذه الآية :(هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنساناً لا حيواناً ولا ملكا ولا شيطانا ...تعترف به كما هو بكل ما فيه من ضعف وكل ما فيه من قوة ....وتأخذه وحدة مؤلفة من جسد ذي نوازع وعقل ذي تقدير وروح ذي أشواق ... تفرض عليه من تكاليف ما يطيق .وتراعي في التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ).

هذا وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من كل تفريط ونهي عن كل إفراط فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه ؟قالت هذه فلانة تذكر من صلاتها ...قال : مه عليكم بما تطيقون فو الله لا يمل الله حتى تملوا ...ومه كلمة نهي وزجر .....ومعنى (لا يمل الله ) لا يقطع ثوابه عنكم حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه؛ ليدوم ثوابه وفضله عليكم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا، وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).

ويقول الإمام النووي في تفسير هذا الحديث: (وهذه استعاره تمثيل ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفوارغ قلوبكم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بغير تعب والله أعلم ).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى ).

والنفس يشق عليها تقمص طبيعة ليست فيها، وممارسة خصال ليست منها ....,هي إن صبرت على هذا التكليف بادئ الأمر فستعمله في النهاية والعاقل من سما بنفسه دونما ملل منها وسعي مع الأيام على تعويدها حمل المزيد من التكاليف والأعباء من غير إعياء لها ...وبذلك يبلغ بها ما يريده منها .....

حقيقة التجرد :

ونفس الداعية لا يمكن  أن تستكمل خصالها الإسلامية وخصائصها الربانية ما لم تتجرد لله وتتحرر من كل ما يستبد بها أو يطغيها ...فإن كان المال فلتزهد فيه وإن كانت الشهوة فلتتحرر منها .

ليكن الغنى بالنفس لا بالفلس .....ولتكن العزة بالله لا بالجاه ...ولتكن المرأة وسيلة إحصان وطاعة، لا عامل انحلال وميوعة وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل يوماً عن أزهد الناس في الدنيا فقال: ( من لم ينس المقابر والبلى، وآثر ما يبقى على ما يفنى، وعدّ نفسه مع  الموتى ).

وقال صلى الله عليه وسلم: (الزهد في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة ).

وورد عن ابن السماك قوله: (الزاهد الذي إن أصاب الدنيا لم يفرح . وإن أصابته الدنيا يحزن يضحك في الملأ ويبكي في الخلاء ).

هذه بعض الملامح الخاطفة لمعالم الشخصية الإسلامية وخصائصها وصفاتها قد تحتاج إلى المزيد من التفصيل والتبسيط وحسبي أن يكون فيها ما يحقق بعض الرجاء ...والله ولي التوفيق .

 

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن  رحمه الله.