إذا ركنَّا إلى مقام العبودية لله حقًّا، وقمنا بحق هذا المقام وصار المرء عبدًا لله؛ فمن ذا الذي يحفظه ويكلؤه ويمنعه غير الله، ومن ذا الذي يكفيه غير الله؟ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) بلى، فمن ذا يخيفه؟ وماذا يخيفه إذا كان الله معه؟ ولم لا نتوكل على مولانا وهو هادينا سبلنا (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) بل إننا نصبر على فتن الدنيا وإيذاء الظالمين لأن ملجأنا إلى الله ورجاءنا فيه وتوكلنا عليه (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 12).

إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب المؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه، وقد انقطع الجدل وانقطع الخوف على النفس أو الرزق (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2 – 3). وانقطع الأمل إلا في جناب الله سبحانه. فهو كافٍ عبده، والعبد الصادق لا يتوكل إلا عليه وحده: (قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).

كما أن كل عبد مضطرٌ إليه تعالى، لا يستغني عنه طرفة عين (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ). (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). فمن يتوكل على الله فهو كافيه ومؤيدُه وناصرُه، ومن توكَّل على غيره فإنما يتوكل على من يموت ويفنى، والضعف والعجز يعتوِرُه من كل جهة، وضل سعيه وخاب رجاؤه.

حقيقة التوكل

وفي السنة المطهرة يقول ﷺ: «لو أنكم توكَّلون على اللّه حق توكله، لَرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا، وتعود بِطانًا». وهنا تنبيه إلى أن التوكل الصحيح يستلزم من صاحبه أن يُعْمِلَ الأسباب كما قال سبحانه وتعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فجعل سبحانه التوكل مع التقوى، وهي هنا شاملة للقيام بالأسباب المأمور بها، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي علينا أن نجعل التوكل عجزًا ولا العجز توكلًا، بل نجعل التوكل متمم لجملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها.

من المعلوم أن الأسباب قد تنخرق للمتوكلين على الله، فالنار صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، والبحر الذي هو مكمن الخوف صار سبب نجاة موسى ومن آمن معه، ولكن لا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكل، كما لا ينبغي التعويل على الحول والطول أو الركون إلى الأسباب، فخالق الأسباب قادر على تعطليها.

إن الإسلام ينشد من أتباعه توكلا يفجر الطاقات الإيجابية في النفس البشرية فتحلق به في سماء العزة والكرامة.

توكل.. يأخذ بالأسباب ويشحذ الهمم.

توكل.. يربط الأسباب بمسببها ويعتمد على الله ويلتجئ إليه.

توكل.. يقود البشر صوب التوازن المحمود والمنشود بين المادة والروح.

توكل.. يقربنا من الله ويرضيه عنا.

توكل.. يكون من عوامل النصر والتمكين.

توكل.. لا يورث التواكل.

فلو عبدت الأمة الله حق العبادة وتوكلت عليه حق التوكل لتغير حالها ولتقدمت الأمم وقادتها لما فيه صلاحها، ولما سيطر عليها شر خلق الله وأعوانهم وأذنابهم ولما فرضوا عليها وصايتهم ولما احتلت الأرض وانتهكت الحرمات ولما وصل الأمر لحد استصدار قرار باعتقال رئيس عربي مسلم. إن ما تعانيه الأمة اليوم هو هزيمة نفسية روحية قبل أن تكون مادية؛ لذا فنحن في حاجة للعودة الجادة إلى الله ومنهجه.

يا أمتنا: على الله فليتوكل المؤمنون

لنجعل من هذه الآية منهج لحياتنا ودعوتنا وحركتنا بين الناس ولنجعلها شعارا لتحركنا بل لحياتنا كلها، ولنحضر أن نكون من معوقات النصر بعدم اتباعنا لهذا المنهج القويم، ولنحيا في معية الله ولنحرص على حسن عبادته ومراقبته في كل حركة وسكنة وعلى حسن الصلة به فإنه وحده ناصرنا ومعيننا. والله أكبر ولله الحمد.

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.