عبد الله الشافعى

{..إن السمع والبصر والفؤاد ... كل أولئك كان عنه مسئولًا} هكذا واضحة صريحة، وبكلمات يفهمها الجميع، لا تحتاج مزيد علمٍ ولا أي تكلف، ولا تستغرق من الإنسان جهدًا ليفهم، فكما أن السمع من أعظم نعم الله على الناس- كل الناس- فشأنه شأن كل نعمة، إما أن يكون طريق العبد إلى رضوان الله- سبحانه- وجنته، وإما أن يكون العبد ممن بدل نعمة الله كفرًا وأحل نفسه وربما غيره معه دار البوار -نعوذ بالله- فيكون سمعه مطيته إلى الهلاك!

ولقد حفظ لنا القرآن الكريم وصية الكافرين لأنفسهم وأتباعهم فى ميدان الصراع الشرس الطويل الدامى العسير، صراع الحق والباطل، ذلك الصراع الذى أذن الله ببقائه إلى أن يرث- سبحانه- الأرض ومن عليها وما عليها، فقد ذكر لنا القرآن الكريم في سورة فصلت: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} كانت وصيتهم أن يغلقوا أسماعهم عن القرآن، فلا يصل إليها شيء منه، كانت تلك وصيتهم ومنهجهم، وطريقتهم في المحافظة على جنودهم وأتباعهم في دائرة عداوة الحق ومحاربته، وفي المحافظة على جذوة الحماس وأسس تحزبهم آمنة راسخة. فيضمنوا بذلك قوة مستدامة، ووقودًا لا يخفت أواره.

فهل كان القوم كارهين للقرآن ولكل ما له صلة به، و لكل ما يذكرهم به، فصدر عنهم ما صدر؟ أم أنهم كانوا على دراية بأثر السماع في النفوس، وعمله الضخم في تغيير القناعات، وتحويل المشاعر! ولذا كانت كلماتهم صارمة واضحة، وكان النهي في غايته، والتحديد قاطع لا مرية فيه {لا تسمعوا لهذا القرآن}.

أرى أنهم كانوا يكيدون لهذ الدين، وقد كانوا جادين في صرف الناس عنه، وفي صرف أنفسهم كذلك، وقد كانوا جادين في محاولة التفلت من تأثير القرآن أو على الأقل في إضعاف أثر القرآن في الناس وفيهم، وأرى أنهم كانوا يعلمون مدى الخطر الذى يمثله الاستماع لمثل القرآن في حلاوته وجاذبيته، والأغلب أنهم كانوا يدركون بفطرتهم وخبرتهم في الحياة- كانوا يدركون جيدًا سطوة الكلمة وسحرها؛ لذا فقد اجتهدوا أن يحولوا بين الناس وبين سماع القرآن الكريم.

على أنه فى الجانب الآخر من الصراع- في جانب الحق والهدى والنور- نجد القرآن الكريم يمنع المؤمنين من سماع الباطل واللغو، يحرم عليهم أن يسمعوا الكفر والاستهزاء بآيات الله- سبحانه- {وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذًا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}

والقرآن إذ يشدد ويعظم جرم الاستماع للباطل واللغو والكفر وكل ما فيه غضب الرب العظيم، فهو يمدح المؤمنين بصفات تطهير سمعهم والنأي بأنفسهم عن مثل هذا: {وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِى ٱلْجَٰهِلِينَ}.

فالأمر إذن واضح جلي، إن للاستماع قوة تأثيرية، وللكلمة سحرها، وعلى الإنسان أن يأخذ حذره، وعلى المؤمن أن يحفظ أذنه مما يلوثها، ومن ثم يتسرب هذا التلوث للقلب فيفسده، وللعقل فيعميه، وللفطرة النقية فيطمسها، لقد أعلن الله أن شريعتنا كلها في جملتها وتفاصيلها يمثلها دور رسولنا الكريم ﷺ فهو كما وصفه ربه في كتابه {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} فكل حلال مباح فهو طيب بالضرورة، نافع للفرد وللمجتمع وللأمة كلها. وكل ما حرم الله فهو الخبيث الضار المهلك المؤذى- للفرد والجماعة والأمة كلها. فحين يحرم الله الاستماع لما يحرم قوله أو فعله فليس للمؤمن إلا أن يلوذ بجناب ربه، ويمتثل أوامره ويحفظ حدوده.

وكم رأينا وسمعنا من ألوان الهلاك والخراب والدمار في خواص الأفراد، وفي البيوت، والتجمعات! كم رأينا فسادًا بعد صلاح، وجرائم يرتكبها من كانوا أبرياء أغرارا، كل ذلك بفعل الكلمة، وبتكرار الكلمة، كل ذلك بتأثر من تأثر بسموم الكلمات، وقوتها التدميرية. بل إن الكلمة قد تشعل حروبًا، وتقيم عداوات، فتهلك جيوشًا وأممًا وحضارات. 

إننا لا نتحدث اليوم عن خطر الكلمة وأثرها على قائلها، بل، نتحدث عن خطر الاستماع، وعن هلاك المستمع، وضعف النفس أمام الكلمة، لا سيما إن كانت متكررة، أو صادفت شهوةً، أو ضعفًا، أو مصلحةً، أو غيرها مما يستخدم الشيطان في إغوائه وإفساده. فكم من مسلم ومسلمة وقع في الكبائر والموبقات بسبب كلمات شيطانية، رددها على مسامعه شياطين الإنس، وما زالوا به وبها، فبالتكرار والتزيين يضعف العقل، ويميل الطبع، ويكون الهلاك!

 رأينا هذا فى حياتنا، وننقله لعلنا نتعظ، وننصح به لعل الله يحفظنا، ويستر عيوبنا، ويجبر كسرنا، ويحفظنا وأحبتنا من كل ضلال. إنها الكلمة بسحرها وقوتها، بأسرارها وتأثيراتها، فاحرص أن تكون مع المؤمنين، واحذر أن تتساهل، فما أقرب الفتنة من المتساهلين.

واعلم أن الإعراض عن اللغو- كل اللغو، وإعلان الحق في كل موطن، والوضوح فيه، والتواضع وعدم الاغترار، والخوف من الفتنة، والحذر من مخالفة أمر الله ورسوله في كل صغيرة وكبيرة، والصرامة في ذلك كله هو الطريق الأمنة، وهو الرجاء العملي للثبات عند المحن، والفوز عند الفتن، والنجاة.