بقلم: فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين – فك الله بالعز أسره

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18)

يغرس القرآن الكريم في قلوب المسلمين الثقة في النصر ويربِّيهم عليها من خلال الواقع العملي والقصص القرآني، وقد قرَّر القرآن عدة حقائق إيمانية:

* انتصار الحق على الباطل (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81) (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (غافر: من الآية 78).

* انتصار الإسلام وأحكامه وهيمنته (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).

* وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (الصافات:171) (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(الصافات: 172) (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:173) (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة: 21).

* هلاك الكافرين والظالمين سنة من سنن الله (أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ) (المرسلات: 16) (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ) (المرسلات: 17) (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (المرسلات: 18).

* النصر يأتي في موعده.. إن طريق الدعوة إلى الله شاقٌّ، محفوفٌ بالمكارِهِ، ومع أن نصر الله آتٍ لا ريبَ فيه إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدّره الله وفق علمه وحكمته وهو غيبٌ لا يعلم موعده أحد، والدعاة أُجَراء عند الله أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا: عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مجال، فذلك شأن صاحب الأمر وصاحب هذه الدعوة لا شأن الأجير، وإن هذه الدعوة ليست تجارة قصيرة الأجل، يتخلَّى عنها أصحابها إلى تجارة أيسر ربحًا وأيسر حصيلةً، ولكن هذه الطريق طويلة جولاتها ومتعددة ومتغيرة، والدعاة رابحون في كل الأحوال.

- (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية 7) إن تنصروا الله في أنفسكم وفي نظام الحياة الواقعية، وحين تتخلَّص النفس من حظِّ لذاتها ومن مطامعها وشهواتها ومن أحقادها ومن قيودها وأصفادها؛ ليتم بعد ذلك النصر والتمكين لهذا الكفاح الشاقّ بمخالطة الناس حتى العصاة مشبَّعين بروح السماحة والعطف على ضعف هؤلاء ونقصهم وأخطائهم ورغبة في تطهيرهم ورفعهم إلى آفاق الإسلام السامية والطاهرة.. الدعاة هم الأعلون.. الأعلون اعتقادًا وتصورًا وارتباطًا بالعلي الأعلى، وهم الأعلون منهجًا وهدفًا وغايةً، وهم الأعلون شعورًا وخلقًا وسلوكًا، وهم الأعلون مكانةً وعزةً ونصرةً؛ لأن معهم القوي الجبَّار جلَّ وعلا (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).

فالدعاة لا ينسون هدفهم في تعبيد الأرض لله وحده، وتلك الدعوة تحتاج طبائع صلبة مستقيمة ثابتة ومجاهدة، وأيضًا أجرُهم عظيمٌ يستحق ذلك وأكبر (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 35) واستمع إلى بشرى حبيبك المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا".

حقائق التاريخ والأمم السابقة

انظر إلى نوح وهو يلجأ إلى الله بقوله: (أَنِّيْ مَغْلُوْبٌ فَانْتَصِرْ) ثم يأتي الفرج القريب، وهكذا المؤمنون في انتظار الفرج من الله حتى يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "أفضل العبادة انتظار الفرج"

انظر إلى فرعون وقد علا في الأرض، ثم يأتي أمر الله تعالى لعباده المؤمنين في قوله (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 6) ودائمًا يحذر الظالمون من انتصار المؤمنين، ومنذ قديم الأزل كان كل جهدهم هو منع انتصار هذا الدين وأهله.

انتصار طالوت على جالوت: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.. (251)) (البقرة).

وانظر إلى سيدنا يوسف كيف تآمَر عليه إخوته.. ألقَوه في البئر، وتسبَّبوا في استرقاقه ومن ثمَّ في سجنه سنين وهو صابر ومحتسب حتى حقَّق الله رؤياه، لكنَّ الأب يعقوب عليه السلام يعيش بالثقة في الله والأمل في لقاء ولده (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87) حتى تحقَّق وعدُ الله ونصره، رغم تأكيد من حوله في استحالة حدوث ذلك: (أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيْ أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد اجتمعت عليه قريش وألقوا الشوك في طريقه وتأتي ابنته فاطمة لتُزيح ذلك عنه وتطيِّب جراحه وتسأل نصر الله، فيرَى ذلك في عينيها فيبتسم في ثقةٍ ويقول لها: "إن الله ناصر أباك" ويصل الأذى والتعذيب مدَاه، فيقول للصحابي- حين قال له ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟-: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"، وحينما بلغت القلوب الحناجر واجتمعت الأحزاب حول الميدنة يقول لهم: "إني أرى قصور كسرى وقيصر تتهاوى" ويقول الصادقون: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب: من الآية 22).

وانظر كيف يعطي كتابًا إلى سراقة بن مالك بسوارَي كسرى بن هرمز وهو مطارَدٌ ومهاجرٌ من مكة .. حكى الدكتور مصطفى السباعي في "هكذا علمتني الحياة"- بتصرف-: تمشَّى الحق والباطل يومًا:

فقال الباطل: أنا أعلى منك رأسًا.

قال الحق: أنا أثبت منك قدمًا.

قال الباطل: أنا أقوى منك.

قال الحق: أنا أبقى منك.

قال الباطل: أنا معي الأقوياء والمترفون.

قال الحق: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) (الأنعام: من الآية 123).

قال الباطل: الجولة الآن لي.

قال الحق: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِيْنَ) (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ) (القمر: 26) (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية 21) (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: من الآية 3). والله أكبر ولله الحمد .