الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ …}. البقرة 185.

ها هم المسلمون يودعون صحائف أعمالهم عن عام قد مضى راجين من الله القبول، ويستقبلون بالأمل شهرًا عظيمًا يحققون فيه فريضة الصيام وسنة القيام ويستكملون تمامه بالزكاة والتكبير، ويلتمسون فيه الفوز بفضيلة الهدى والتقى وترتيل القرآن وتجديد العهد والإيمان.

إنها أيام مباركة تستلهم فيها البشرية الحائرة المضطربة من صيام المسلمين في هذا الشهر الكريم دروس التضامن والتكافل، من خلال معايشة شعور الجوعى والمحتاجين والضعفاء، وأيضًا فرحتهم وسعادتهم عند تحصيل أسباب الحياة.

نداؤنا إلى كل المسلمين في العالم الذين شرح الله صدورهم للحق والهدى؛ أننا كما نستعد لننصب أقدامنا في صفوف الصلاة علينا أن نقيم وجوهنا وقلوبنا ونستفرغ كل جهد- ما استطعنا- نحو الخير والحق ونصرة المشردين واللاجئين والمستضعفين الذين تعرضوا للمظالم السياسية والاجتماعية؛ كما في مصر الكنانة وفلسطين وبلدان أخرى، أو من تعرضوا للكوارث الطبيعية من الزلازل والبراكين كما في مأساة إخواننا في تركيا وسوريا مؤخرًا.

أما فلذات أكبادنا وزهرة أوطاننا المضطهدين من شباب مصر وعلمائها وقادة الرأي والفكر فيها؛ سواء أكانوا في سجون الطغاة أو أقبية البغاة، أو كانوا من المهاجرين والمطاردين فرارًا بدينهم وكرامتهم.. إلى هؤلاء جميعًا نقول: إن مثلكم أيها النبلاء الصابرون القابضون على جمر المظالم والانتهاكات المروعة مِثل إخوانكم المرابطين على أكناف بيت المقدس؛ على الحق ظاهرين ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولن يضيع الله إيمانكم ولن يتِركم أعمالكم، وطريقكم في الصبر والصمود والثبات هو طريق الأنبياء، وهو درب نبيكم- صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والهجرة والرباط، إلى أن يأذن الله بنصر مبين وفتح قريب.

ولنتذكر جميعًا أن الانتهاكات التي تقترفها سلطة الانقلاب الغاشمة في حقكم وفي حق أسركم وذويكم هي جزء من معاناة شعبنا الكريم في مصر الذي يواجه ويلات القهر والمهانة والغلاء وكافة الانتهاكات، وكل ذلك هو جزء مما يلقاه المسلمون في العالم من شيطنة العلماء والدعاة وانتهاك حقهم في الحياة وتشويه القدوات الصالحة فضلًا عن تشويه التاريخ والأحداث.

اركب معنا

إن المشهد الذي رأيناه عقب الزلزال المدمر في تركيا وسوريا من نفرة الجموع على اختلاف جنسياتهم وأماكنهم للتبرع بالدم وتقديم المساعدات المادية والعينية والمشاركة الواسعة في استنقاذ الأرواح وإغاثة المتضررين لهي علامة صحة لأمة ظنها الناس قد ماتت ولكنها – بحول الله – ما زالت حية تتدفق فيها النخوة والنجدة والمروءة.

إن هذا الركب الصالح الذي ساهم بكل قوة في دعم المتضررين من الجوائح، وما زال يقدم الكثير ليصدح بنداء لكل المسلمين بأن يلحقوا به وأن يركبوا معه في سفينة الغوث والعطاء حسبة لله ورغبة فيما عنده.

فلسطين البوصلة

ومع شهر رمضان ستظل فلسطين البوصلة التي تؤكد على حياة الأمة وتبعث الأمل في نصر قادم تظهر بشائره وتتبدى ملامحه؛ مرة من القدس الشريف ومرة من الضفة التي انتفضت خلال الشهور الأخيرة لتخبر العالم أن الجميع على قلب رجل واحد مدافع عن أرضه سواء في الضفة أو في غزة أو غيرها من مدن فلسطين الباسلة. لقد تعرض إخواننا في فلسطين المحتلة مؤخرًا إلى أكثر من هجوم غاشم نفذه العدو الصهيوني المحتل في مخيم جنين ومدينة نابلس في شمال الضفة الغربية المحتلة، وقد خلفت هذه الهجمات البربرية عددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى مصابين بالرصاص الحي؛ ولن تتوقف مثل هذه الهجمات الغاشمة، ورغم كل هذه الجراح إلا أن مكونات الشعب الفلسطيني وفي القلب منها المقاومة بجميع فصائلها ثابتون على أرض فلسطين.

إن حالة الانقسام الداخلي التي تعاني منها حكومة الكيان الغاصب وحالة التفكك التي بدت على المجتمع الصهيوني وتجلت في السنوات والشهور الأخيرة مع تفاعل المقاومة بالضفة والقدس لهي بشارات جديدة على اقتراب ساعة الخلاص والنصر بإذن الله تعالى.

إن هؤلاء الأبطال في الأرض التي باركها الله يوجهون بمقاومتهم أبلغ رسالة إلى من يسارعون من أبناء جلدتنا بالتطبيع مع الكيان الصهيوني والمراهنة عليه رغم ما يعتريه من خور وضعف، وما يعانيه من تفكك يؤذن بالانهيار في ظل مقاومة صاعدة تسعى لاسترداد الحق وإعادته لأهله.

تحية للأحرار الصامدين وأهليهم

وفي أرض الكنانة -وليس بعيدًا عن مراهنة البعض على التطبيع مع الكيان الصهيوني المتهالك- يسعى البعض للمراهنة على المصالحة مع سلطة المنقلِب وهو في أضعف حالاته وأكثر أوقاته حرجًا، دون الالتفات إلى حالة الصمود الغالية التي يقدمها إخواننا اﻷحرار في السجون والمعتقلات؛ الذين إن أرادوا لخرجوا بين عشية وضحاها، ولكنهم أبوا أن يخذلوا وطنهم أو يتنازلوا عن حقه في حياة كريمة.

إن صمود الأبطال اﻷحرار وراء الأسوار ورفضهم القاطع تقديم التنازلات- وإن شاءوا فعلوا- كان زادًا للشعب المصري الذي تكشفت له الأمور وتبينت له الحقائق وظهرت له كل السوءات التي أدركها هؤلاء الأبطال مبكرًا؛ فكانوا ثابتين على الحق صابرين على البأس لا يعطون الدنية في دينهم أو وطنهم أو حق شعبهم في الكرامة واختيار من يحكمه.

إن لهؤلاء اﻷحرار الصامدين علينا حقًّا ألا نخذلهم أو نعطي الدنية ونحن في بحبوحة العيش، وألا نخذل صبرهم وثباتهم بالمسارعة إلى الطغاة ونحن في سعة من أمرنا، ومن أولى واجباتنا نحوهم أن نخلفهم في أسرهم وأبنائهم بخير. لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم- كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ. فحري بأهل الصيام والقرآن أن يمدوا يد العون لإخوانهم فيؤدوا ما عليهم من واجب التكافل والتراحم. وليس ببعيد عنا ما تتعرض له آلاف الأسر في مصر الكنانة من آثار الجرائم التي يرتكبها الانقلاب الغاشم من تغييب المعتقلين والمعتقلات وراء الأسوار وقهر النساء والأبناء أمام بوابات السجون، إضافة إلى عشرات الملايين من المصريين الذين أصابهم القرح جراء حالة الانهيار الاقتصادي التي أوصلنا إليها الفاشل المنقلِب.

من أخبار الجماعة

الهيئة الإدارية الجديدة تبدأ في العمل نحو إنجاز عدد من المشروعات ذات الأولوية وفي مقدمتها ملف المعتقلين ولم الشمل والحفاظ على هوية الجماعة:

بدأت الهيئة الإدارية بعد انتهاء مجلس الشورى العام من إجراءات انتخابها واعتماد وثيقتها في يناير 2023م في العمل نحو إنجاز عدد من المشروعات ذات الأولوية، والتي جاء في مقدمتها:

1- تفعيل الاهتمام بملف اﻷحرار في السجون والمعتقلات من خلال المسارات الحقوقية والقانونية، بالإضافة إلى سعي الجماعة بكل مؤسساتها لتخفيف معاناتهم ومعاناة ذويهم.

2- اتخاذ عدد من الإجراءات نحو الحفاظ على ثوابت الجماعة وأصولها وأركانها والتصدي لكل محاولات تغيير هويتها أو تحويل مسارها، ووضع الضمانات المناسبة للاطمئنان على رسوخها لدى مؤسسات وأفراد الجماعة وسد الثغرات التي أفرزتها الأزمة الأخيرة.

3- البدء في اتخاذ الإجراءات لتطوير كلٍّ من الرؤية العامة والرؤية السياسية للجماعة وفق مستجدات المرحلة وتقديرات الموقف، والتي تأخذ في الحسبان المستجدات المحلية والإقليمية والدولية.

4- البدء في تفعيل حزمة من الإجراءات لتطوير أداء الجماعة وتفعيله بهدف إحداث نقلة نوعية، وتوفير كل ما يتطلبه الأمر من تطوير في السياسات والإجراءات والوسائل والتكوين اﻹداري والتربوي للهياكل والأفراد وفقًا  لثوابت الجماعةِ وقواعدها الراسخة.

وتؤكد الجماعة على حرصها الشديد على وحدة الصف ولم الشمل والتعاطي بشكل إيجابي مع كل المبادرات التي تقدم بها أفراد أو مؤسسات بهدف إنهاء الأزمة الحالية وقد كانت كلها تتضمن وجود أ. إبراهيم منير رحمه الله قبل وفاته (وآخرها ما تقدم به أحد أعضاء الشورى العام بالخارج مؤخرا)؛ وتؤكد الجماعة أنها وافقت على أي حل تكون مرجعيته مجلس الشورى العام في الداخل والخارج بهيئته التي اجتمع عليها في 20-8-2021 برئاسة أ. إبراهيم منير رحمه الله، وأن كل الموضوعات مطروحة على جدول أعمال الشورى دون استبعاد ﻷي من مقترحات اﻷعضاء أيا كانت، وأن ما يقرره المجلس يكون ملزما للجميع، سائلين الله أن يلهم الجميع الرشد وأن يجمع الكلمة على صالح الدعوة ورضاه سبحانه وتعالى.

عهد ووفاء

إن جماعة الإخوان المسلمين بصفها وقيادتها لن تخذل اﻷحرار الصامدين خلف الأسوار، وعلى رأسهم فضيلة المرشد العام أ.د. محمد بديع ومعه نوابه وباقي قيادات الجماعة وأبناؤها وجميع معتقلي الرأي من أبناء الشعب المصري، ولن تقبل محاولات البعض إهدار تضحياتهم أو النكوص عن مبادئهم أو التفريط في ثباتهم أو الالتفاف على ثوابتهم، فالجماعة إذ لم تفعل ذلك عندما انخدع البعض في الانقلاب؛ لن تفعله بعد أن انفض الشعب عنه وأدركوا خطورة استمراره على الوطن.

كما تحمل الجماعة سلطة الانقلاب المسئولية الكاملة عن سلامة فضيلة المرشد العام الصابر المحتسب والذي لم يهتز أمام كل محاولات التركيع واﻹذلال مقدمًا نموذج الداعية اﻷمين على دعوته ومسئولياته والملتزم في صبره وصموده بأخلاقيات وأدبيات اﻹسلام والجماعة، ورغم ما يعانيه فضيلته وإخوانه من تعنت ومنع للزيارات وتضييق في الطعام والأدوية وأبسط الحقوق اﻹنسانية، إلا أن الله حافظهم وحافظ صحة فضيلته وإخوانه.

وإنه لعهد ووفاء وترقب لساعة النصر والخلاص من المستبد، وما هي عنا- بحول الله- ببعيد: {.. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 4-5).

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

والله أكبر ولله الحمد

أ.د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام

الأربعاء ٢٣ شعبان ١٤٤٤هـ الموافق ١٥ مارس ٢٠٢٣م.

 

اضغط هنا لتحميل الرسالة PDF