ليس من غرضي أن أبين أحكام الصوم في هذه الكلمات، بل الغرض منها الإلمام ببعض المعاني التي قد تخطر بالبال عندما يوافينا شهر رمضان المبارك في كل عام.

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فجعل الله تبارك وتعالى الصيام أصلاً من أصول الديانات كلها على خلاف في كيفيته.

وليس الغرض من الصيام في ظني إذلال النفس- بكفها عن المأكل والمشرب والملذات- بل الغرض منه رفع النفس الإنسانية عن شهوتها وتهيئتها لعظائم الأمور وتعويدها الصبر والاحتمال؛ لذلك كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يصوم كلما همَّ بغزوة من الغزوات؛ توطينًا لنفسه الشريفة على احتمال ما يلاقيه في سبيلها، وتقربًا إلى الله تعالى بالطاعة وإرشادًا للمسلمين إلى سلوك سبيل الاستعداد لاحتمال الشدائد، وليس في ذلك إذلال للنفس، بل فيه إثبات لعظمتها وقدرتها على التغلب على الحاجات والأهواء، والتغلب على المعاصي والمنكرات والنفس الذليلة هي التي تقارف المنكرات، أما النفس العظيمة فهي التي تعلو عليها ولا تتنزل إليها.

وليس الصيام هو الكف عن الطعام والشراب، وما أُحل للإنسان من طيبات أخرى، بل هو-فيما أعتقد- كف عن جميع المحرمات من قول وعمل، وفي ذلك يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجله".

فالله تعالى ليس في حاجة إلى أن ندع طعامنا وشرابنا من أجله، إذا كذَبنا او اغتبنا، أو سخِرنا بغيرنا، أو وعدنا فأخلفنا، أو نظرنا نظرة سوء، أو استقر الباطل في أنفسنا، أو قصرنا في واجب، أو تجاوزنا الحق في حكم، إلى غير ذلك مما لا تشعر النفس بأنه معصية، وإنما جعلته العادة أمرًا مباحًا أو كالمباح.

وهذا تدريب على الخلُق الفاضل والحياة الطاهرة، فإذا لزم الإنسان- مدة شهر كل سنة- هذا الخلق وهذه الحياة كان خليقًا ألا ينحرف عن ذلك في سائر الأيام، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وقد رأى بعض الفقهاء من الحديث السابق ذكره، ومن قول الرسول- صلى الله عليه وسلم- "كل عمل أتى على غير أمرنا فهو رد" أن ارتكاب أي معصية- مهما صغرت وهانت في نظر مرتكبها- تُبطل الصوم.

في الصيام ما يعلم الناس وما لا يعلمون من فوائد طبية ما زال الطب الحديث يكشف عنها، ولست أقول ذلك لأبحث فيها فليس ذلك من شأني.

وإنما ألفت النظر إليها؛ لأبين أن الله يعلم من أمورنا ما لا نعلم، وقد فرض علينا من الفروض ما هو غنيٌّ عنه، وإنما فرضه لمصلحتنا، دون أن نعرف الفوائد التي تعود علينا منه، فإذا أثبت الطبُّ فائدةً للفرض فكم من فوائد خفِيت على الطبِّ، وتحققت بأداء الفروض دون أن يدركها الإنسان، فالفروض التي أمر الله تعالى بها علاج لتصحيح النفوس والأبدان، يجب علينا أن نتقبلها ونؤديها من غير نظر إلى ما يكشفه الطب من فوائدها، فهو يكشف عن شيء وتغيب عنه أشياء، وإنما يعلم ذلك الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.

من أنواع الطاعات التي يأتيها المسلمون في رمضان الإكثار من تلاوة القرآن، والقرآن خليق بأن يكون إمام المسلم في كل وقت، خصوصًا في رمضان، ولكننا نقرأه على نحو لا يؤدي الغرض المقصود منه، وبعض الناس يفرضون على أنفسهم قراءةَ قدر منه كل يوم، حتى إذا مر الشهر كان قد ختمه كله مرة أو مرات، ثم طوى المصحف بعد ذلك فلا يعاود قراءته أو يعاودها بلا نشاط، وهو في كل ذلك يمر على ما يقرأ مرًّا سريعًا لا يكاد يفقه لما يقرأ معنىً أو لا يدرك إلا معنى القليل منه.

وليست العبرة في التلاوة بمقدار ما يقرأ المرء، وإنما العبرة بمقدار ما يستفيد.

فالقرآن لم ينزل بركةً على الرسول- عليه السلام- بألفاظه مجردة عن المعاني، بل إن بركة القرآن في العمل به واتخاذه نهجًا في الحياة يضيء سبيل السالكين، فيجب علينا حين نقرأ القرآن في رمضان أو في غير رمضان أن يكون قصدُنا من التلاوة أن نحقِّق المعنى المراد منها، وذلك بتدبر آياته وفهمها والعمل بها.

وكان صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يقرءون من القرآن إلا عشر آيات، لا يجاوزونها إلى غيرها حتى يفهموها ويعملوا بما فيها، فحبَّذا لو نهجنا نهجهم، وسلكنا مسلكهم، فإن في القرآن آياتٍ إذا تدبرها الإنسان وعمل بها لخرج من بيته ملاكًا طاهرًا، وعاد إليه ملاكًا طاهرًا، ومن أنسب ما يتدبره الصائم هذه الآيات.

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان من 153: 157).
--------
* نُشرت بمجلة (المسلمون) في الخمسينيات، وأعيد نشرها بمجلة الدعوة 1976م.