بقلم: د. علي محمد الصلابي
إنّ القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلٍّ شيء، وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود ، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود والأمة لها.
وقد وضع الله القبول للملك العادل نور الدين الزنكي – الذي سطّر أروع البطولات ضد الغزو الصليبي - فأحبته الجماهير لجهاده ، وإخلاصه ، وتفانيه في خدمة الإسلام.
وتحدث المؤرخون عن بعض ذلك، منهم ابن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عندما تحدث في أحداث سنة 552هـ قال: «وفيها مرض نور الدين ، فمرض الشام بمرضه ، ثم عوفي ، ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً». وقال في أحداث سنة ثمان وخمسين وخمسمئة: «وفيها كبست الفرنج نور الدين وجيشه ، فانهزم المسلمون لا يلوي أحدٌ على أحدٍ ، ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشِّبحة في رجله فنزل رجلٌ كرديٌّ ، فقطعها حتى سار السلطان نور الدين فنجا ، وأدركت الفرنج الكرديَّ فقتلوه. (البداية والنهاية، 16/382)
وفيما ذكره ابن كثير ، يظهر الحبَّ العميق ، الذي تكنه الأمة لنور الدين ، وهذا الحب الربَّاني كان نابعاً من القلب ، وبإخلاص ، لم يكن حب نفاق. وما أبلغ تعبير ابن كثير: «مرض نور الدين ، فمرض الشام بمرضه» فهل هناك تلاحم بين القيادة والقاعدة مثل هذا في ذلك الزمن ، ومن أسباب ذلك الحب صفات نور الدين القيادية ، فهو يسهر؛ ليناموا ، ويتعب؛ ليستريحوا ، وكان يفرح لفرح المسلمين ، ويحزن لحزنهم ، وكان عمله لوجه الله ـ نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً ـ وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي عندما قال:
فـــــــــــــــــــإذا أحــــــــــــــــــب اللـــــــــــــــــــــه باطـــــــــــن عبــــــــــــــــــــــده ظـهــــــــــــــرت عليـــــــــــــــــــه مواهــــــــــــــــــــــــب الفتـــــــــــــــــــــــــــــــــــاح
وإذا صفـــــــــــــــــــت لله نيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة مصلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــح مـــــــــــال العبــــــــــــــــــــــاد عليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه بــــــــــــــــالأرواح (الحركة السنوسية للصَّلاَّبي، 2/7)
وامتدَّ حب الأمة لنور الدين الزنكي لكي يتجاوز مدن دولته ، وحصونها ، وقراها إلى ما وراء الحدود ، وكسب جماهير خصومه من الداخل ، وهز عروشهم ، وقطع جذور مواقعهم من الأعماق ، وأزاحهم من طريق الوحدة التي اعتزم بناءها، دونما قطرة من دم، فالدم المسلم كان عنده عظيماً ، وليست تجربته مع أهالي دمشق بالمثل الوحيد ، فمُنذ عام 543هـ حينما تقدم على رأس قواته ، للمساعدة على فك حصار الحملة الصليبية الثانية عن دمشق: شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، وراحوا يدعون له دعاءً متواصلاً وأخذ يخرج إليه خلال المراحل التالية من الحصار ـ عدد كبير من الطلاب، والفقراء، والضعفاء، ولهذا دلالته، فهم الذين كانوا في الواقع أصدقائه الحقيقيين ، كما سيتبين لنا «فما خاب قصده» كما يقول ابن القلانسي.
أما فلاحو المنطقة؛ فكانت قلوبهم معه؛ لأنه منع أصحابه من العبث في مزارعهم ، وأعلن: أنه جاء لكي يحمي كدحهم من تخريب الصليبيين، وفي عام 547هـ عندما تقدم إلى دمشق لضمها إلى جبهة القتال الجادِّ المخلص ضد الصليبيين ، واستنجد حاكمها مجير الدين بالعسكر ، والأحداث، للخروج إلى قتاله. لم يخرج إلا القليل ، لما وقر في نفوسهم من استنجاد مجير الدين بالفرنج. (نور الدين محمود ص 26)
وأقام نور الدين على دمشق من غير قتال ، ولا زحف خوفاً على المسلمين. وقد عزَّز بذلك محبة الدمشقيين له ، فكانوا يدعون ليلاً ونهاراً أن يبدِّلهم الله سبحانه بالملك نور الدين وأخذ نور الدين يكاتب أهل دمشق ، ويستميلهم. وكان الناس يميلون إليه لما هو عليه من العدل ، والديانة ، والإحسان ، فوعدوه بالتسليم. (مراة الزمان، 8/209 ـ 210)
وقد دخل نور الدين دمشق عام 549هـ في فتح أبيض لم تُرَقْ فيه دماء ، وما ذلك إلا ـ بتوفيق الله ـ ثم بمساعدة الجماهير التي كانت تنتظر دخوله مُنذ سنوات وسنوات. يقال: إن امرأة كانت على السور ، فدلت حبلاً ، فصعدوا إليه ، وصار على السور جماعة ونصبوا السلالم وصعدت جماعة أخرى ، ونصبوا علماً ، وصاحوا بشعار نور الدين. (كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود 26)
وبعد أقل من ثلاث سنين ، حينما أعلن في دمشق عن التطوع في حملة لقتال العدو ، خرج كلُّ قادر على حمل السلاح من أهل دمشق ، وتَبِعَ نور الدين في حملته تلك: فتيان البلد من الأحداث ، والغرباء ، والمتطوعة ، والفقهاء، والصوفية ، والمتدينين العدد الكثير.
وهناك رواية لابن الأثير تناقلها كثير من المؤرخين ، تحمل دلالتها العميقة في هذا الموضوع: طلب نور الدين عام 559هـ نجدات من أمراء الأطراف ، لفتح حارم المعروفة بحصانتها الشديدة ، فأما فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي ، حاكم حصن كيفا في ديار بكر ، فبلغني عنه: أنه قال له ندماؤه ، وخواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: على القعود ، فإن نور الدين قد تحشَّف من كثرة الصوم والصلاة ، فهو يلقي بنفسه والناس في المهالك ، فكلهم وافقه على ذلك ، فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر ، بالتجهيز للغزاة فقال له أولئك: فارقناك بالأمس على حالٍ نرى الان ضدها!! فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً ، إن لم أنجده خرج أهل بلادي على طاعتي ، وأخرجوا البلاد من يدي ، فإنه كاتب زُهَّادها ، وعبَّادها ، والمنقطعين عن الدنيا ، يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل ، والأسر ، والنّهب ، ويستمد منهم الدعاء ، ويطلب منهم أن يحثُّوا المسلمين على الغزاة ، فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ، ويبكون ، ويلعنوني ، ويدعون عليَّ ، فلا بد من إجابة دعوته ، ثم تجهز هو «أيضاً» وسار إلى نور الدين بنفسه. (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 27)
إن نور الدين يتعامل مع الجماهير ، وأعيانها ، ورموزها ، وقد حقق نجاحات باهرة في كسب قلوبها ، وتأييدها ، ومحبتها ، فكان يطلعها على تفاصيل ما يجري على الساحة ، فإن تردد الحكام والأمراء ، أو جبنوا ، أو بخلوا؛ فإن بمقدور القواعد الأكثر ثقلاً وتأثيراً يومذاك أن ترغمهم على الطاعة ، وإلاّ عصفت بهم ، وأخرجت البلاد من أيديهم ، وذلك هو الضمان الكبير في تجنيد القدرات الإسلامية كافة ، ودفعها إلى ساحات الجهاد، وما من شكٍّ في أن انسجاماً عميقاً ، يتحقق بين القيادة والقواعد ، ومحبة واعية تسود العلاقة بين الرجل ، والجمهور ، وتعاطفاً مخلصاً من أجل الأهداف الكبيرة. وما من شكٍّ: أن هذا ، وذاك من أسباب النجاح والتوفيق في إدارة دولته.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: "الدولة الزنكية" للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- البداية والنهاية، ابن كثير.
- نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل.
- كتاب الروضتين، أبو شامة المقدسي الشامي.
- الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.