د. يوسف القرضاوي

المؤمن يعيش موصولًا بالوجود كله، ويحيا في أنس به، وشعور عميق بالتناسق معه، والارتباط به، فليس هذا الكون عدوًا له، ولا غريبًا عنه، إنه مجال تفكره واعتباره، ومسرح نظره وتأملاته، ومظهر نعم الله وآثار رحمته.

هذا الكون الكبير كله يخضع لنواميس الله كما يخضع المؤمن، ويسبح بحمد الله كما يسبح المؤمن، والمؤمن ينظر إليه نظرته إلى دليل يهديه إلى ربه، وإلى صديق يؤنسه في وحشته.. وبهذه النظرة الودود الرحبة للوجود، تتسع نفس المؤمن، وتتسع حياته، وتتسع دائرة الوجود الذي يعيش فيه.

فليس هناك أوسع من صدر المؤمن وقلبه الذي وسع العالمين، المنظور وغير المنظور، عالم الشهادة وعالم الغيب، ووسع الحياتين: الدنيا والآخرة، حياة الفناء، وحياة الخلود، ووسع الوجودين: الوجود المحدث الفاني، والوجود الواجب الباقي، الوجود الأزلي الأبدي، وجود الله جل جلاله.

وليس هناك أضيق من صدر الملحد والشاك في الله والآخرة، إن حياته أضيق من سجن، بل من "زنزانة" في سجن، إنه يعيش معزولًا عن الأزل والأبد، عن الأمس والغد. لا يعرف إلا يومه، ولا يعرف من يومه إلا لذّاته المحسة، وهو يعيش معزولًا عن الوجود العريض، لا يرى منه إلا شخصه وشخوصًا محدودة أخرى، ولا يرى من شخصه إلا جسمه المادي، ودوافعه الحيوانية.

هذه حقيقة ثابتة، وسنة ماضية، منذ أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض ثم قال لهما {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (طه: 123، 124).

فإذا رأيت بعض هؤلاء المعرضين عن هدى الله في بحبوحة من العيش المادي، والنعيم الحسي؛ فلا يخدعنك ذلك عن حقيقة حالهم، فإن الضنك الحقيقي في أنفسهم، وإذا ضاقت النفس، وضاق الصدر؛ ضاقت المعيشة وضاقت الحياة كلها، وإذا اتسعت النفس؛ اتسعت الحياة، وقديمًا قال الشاعر:  لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها  **  ولكن أخلاق الرجال تضيق!

إن دائرة الوجود بالنسبة للحيوان دائرة ضيقة محدودة بحدود معدته وكرشه، وما يملؤها من كلأ ومرعى، ولا التفات إلى ما وراء ذاك، وقريب من ذلك الطفل، فوجوده ينحصر في أمه وثدييها، فإذا كبر قليلًا اتسع فشمل أباه وأخوته ومسرح لعبه، فإذا نما شيئًا فشيئًا؛ بدأت تتسع دائرة حسه، ثم انتقل -كلما قارب الرشد- من المحسوس إلى غير المحسوس؛ فبدأ يدرك المعاني الكلية والمعقولات المجردة.

فالإيمان بالله وبالغيب هو الذي يرتفع بالإنسان من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الطفولة إلى الرشد؛ لأنه يرتفع بالإنسان من المحسوس إلى المعقول، ومن المنظور إلى غير المنظور، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب.

إن المؤمن يعيش في سعة من نفسه وقلبه، ولو لم يكن في سعة من عيشه؛ فطبيعة الإيمان توسع النفس والقلب والحياة؛ لأنه يصل صاحبه بالوجود كله، ظاهره وباطنه، علوية وسفليه، وما يبصر منه وما لا يبصر، ماضيه وحاضره ومستقبله، يصله بالسموات والأرض ومن فيهن.

يصله بالملائكة وحملة العرش والقوى الروحية من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو، يصله بحملة النور الإلهي، وأصحاب الرسالات السماوية من لدن آدم أبي البشر إلى محمد صلى الله عليه وسلم، يصله بالصديقين والشهداء والصالحين من كل أمة، ومن كل عصر، يصله بالآخرة والبعث والحساب والجنة والنار، وباختصار: يصله بالوجود ورب الوجود، الأول والآخر، والظاهر والباطن.

النفس المؤمنة نفس رحبة واسعة، وكيف لا وهي تعيش في وجود سعته السموات والأرض، والعرش والكرسي، والدنيا والآخرة، والأزل والأبد؟!

والنفس المؤمنة رحبة واسعة؛ لأنها تعيش في نور يهديها سبيلها، ويكشف لها من حولها، ومن شأن النور أن يوسع الدائرة التي يحيا فيها الإنسان على عكس الظلام، فإن الذي تكتنفه الظلمة لا يرى ما حوله ولا من حوله، بل لا يرى الشيء وهو بجواره تكاد تلمسه يداه، بل لا يرى نفسه، ولا شيء أقرب إليه من نفسه، فإذا لاح له شعاع خافت بدأ يرى نفسه، أو شيئًا مما حوله. فإذا قوي هذا النور وانتشرت أشعته العريضة، أضاء له دائرة أوسع، وعلى قدر قوة هذا النور وقوة البصر عند الإنسان تكون سعة الدائرة التي يدركها البصير.

سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) فقال: "إن النور إذا دخل في القلب اتسع وانفسح"، فالقلب يتسع وينفسح وينشرح بنور الإيمان واليقين، كما يضيق وينكمش بظلمة الإلحاد والشك والنفاق: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (الأنعام: 125).

.....

- المصدر: "الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.