السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا لم أكمل دراستي الجامعية، ولديَّ ثلاثة أبناء: خالد (16 سنة)، وريم (14 سنة)، وتميم (10 سنوات).

مشكلتي ابني المراهق، وأريد أن أقوي الوازع الديني لديه؛ بالرغم من التزامي الديني والتزام والده والحرص منّا على أداء صلوات ابني جميعها في المسجد، ولكن شخصيته سريعة التأثر بالثقافة الغربية، وبالرغم من أنّي أمنعه من سماع الأغاني ولكني اكتشفت أنّه يسمع الأغاني، وهو شاب قلبه طيب، وليس لديه أبناء عمومة؛ لأنّ زوجي أكبر إخوته، وليس هناك أيضًا أي أبناء خالة في سنّه.

بحثت له عن صديق صالح وهو ابن جارنا، ولكن اتضح أنّه شاب من أسرة محترمة، ويحافظ على الصلاة، ولكن غير ملتزم أو الوازع الديني لديه ضعيف، وحاولت أن أشرك ابني في أماكن تناسب سنّه ليشغل بها وقت فراغه مثل: لعب رياضة السلة، ولكن أخذ منها نظام وستايل الأمريكان في اللبس، وتأثرت دراسته، فاضطر والده لإخراجه، وهو يعاني من فراغ، ولقد احترت ما الأنشطة التي أشركه فيها ليتعرف من خلالها على صحبة صالحة، ويقضي وقتًا مفيدًا، وفي الوقت نفسه يقوّي الوازع الديني لديه.

منذ صغره بدأت معه تحفيظ القرآن، واستمر فترة وشعر بالملل للأسف، وكنت أتمنى أن أوفق بمحفّظ يكون بمثابة مؤدب ديني ومحفّظ في نفس الوقت، ولم أوفق.

حاولت أن أشركه في بعض السفرات التي تقدمها بعض المنظمات الخيرية التي تكون بصحبة دعاة، ولكن مبالغها باهظة لا أقدر عليها.

أريد فعلاً أن أدلّه على صحبة صالحة ويقوى الوازع الديني لديه، ولا أعرف كيف! حتى في المرحلة الإعدادية أدخلته المعهد الديني، ولكن بسبب ضغط الدروس تدنّت درجاته وتعب من ثقل المواد، ونقلته لمدرسة عادية.

فعلاً احترت كيف أشغل وقته بنشاط مفيد لا يؤثر على دراسته، ويبتعد عن اللعب بالأجهزة الإلكترونية، وأحيانًا يضطر والده لحرمانه منها ومن هاتفه لكثرة انشغالها بها.

أرجو النّصح والتوجيه في كيفية أرتّب حياة ابني وأوجّهه التوجيه السليم، وأقوي الوازع الديني لديه.

لكم كل الشكر والتقدير.

الإجابة:

المستشار: أ. أميمة صوالحة:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وشكرًا على تكرّمكم بطلب الاستشارة من موقعكم «مستشارك الخاص» وثقتكم بنا، آملين في تواصلكم الدائم مع الموقع، وبعد:

العزيزة الأم الغالية، حفظك الله وأبناءك وسائر أسرتك وأسعد قلبك، وأعانك على تربية الأبناء والإحسان إليهم حتّى تقرّ عيناك وتنالين أجر صلاحهم.

نرحب باستشارتك المليئة بأصناف الأمل والأهداف النّبيلة والمساعي الطّيبة في تربية ولدك المراهق -حفظه الله- ونقدّر خلجات الأمومة تلك التي تجتاح فؤادك وتعصف داخلك بالطّموح والأمل بأنْ يكون ولدك مثالاً يحتذى في عالم الرّجال الإسلامي، ولا شكّ بأنّ الأهداف الواضحة تحتاج إلى السّعي والجد في تحقيقها، إلا أنّه كثيرًا ما يغيبُ عن الخاطر بأنّ اتخاذ الأبناء هدفًا خاصًّا دون تقدير واحترام ذواتهم ورغباتهم وقناعاتهم الذّاتيّة، وتلك الظّاهرة تمثّل لبّ المشكلة في حياة ولدك.

ولقد اتضح ذلك جليًّا من عباراتك وكلماتك، التي تمركزت حول: «أشركه في بعض السّفرات، أدخلته معهدًا، أمنعه، و..»، وجميعها عبارات عظيمة إلا أنّها لم تعبّر عن شخص ولدك أبدًا، ودليل ذلك أنّه لم يستطع التّكيّف مع أيٍّ من الأهداف السّابقة بصيغة موائمة، لذلك يتوجّب دومًا غرس القناعات الإيجابيّة حول التوجهات والأنشطة، ومنح الأبناء فرصة الاختيار والاعتماد على الذّات في تحديد الاهتمامات والتّوجّهات، لتكون الحوافز والدّوافع ذاتيّة لضمان استمراريّة الكفاءة في الوصول إلى تحقيق الأهداف بنجاح، والقناعات الفكريّة كما الغذاء قد لا تظهر آثارها آنيّة، إلا أنّ الوقت والثّبات في تغذيتها كفيلٌ بأن يبرز أثرها، ويجلو بريقها صافيًا واضح المعالم.

ثمّ نحمد الله إليكِ ونبشّر قلبك بالطّمأنينة بأنّ ولدك البار طيّب الأصل، طاهر النّشأة، واستجاباته بالطّاعة والرّضوخ للأوامر والقرارات الأسريّة التي يفرضها الوالد تارة والوالدة تارة أخرى تُعدّ مؤشّرًا إيجابيًا في جوانب التعلّم والاكتساب في العديد من المجالات، إلا أنّ الجانب النّفسي وجوانب الشّخصيّات القياديّة تحتاج منكم تمكين ولدكم -حفظه الله- من تسلّم دفّة التّخطيط والقدرة على اتخاذ القرارات وحلّ المشكلات بالإرشاد والتّوجيه لا بالتلقين والتّبعيّة؛ لأنّ التّبعيّة نمط تربوي سيجعله دائمًا شخصيّة تابعة لأبسط مصادر القوة من حوله، ومثال ذلك: تأثّره بالمظهر العام للثّقافة الغربيّة لمجرّد التحاقه بنادي كرة السّلة لفترة وجيزة.

إضافة إلى أنّ منحه مساحات يسيرة من حريّة الأفكار وتشكيل القناعات من خلال التّجارب الذاتيّة الموجّهة توجيهًا مليئًا بالحب والعاطفة ستجعل منه رجلاً قائدًا في المستقبل لا إنسانًا آليًّا ينفذ رغبات من حوله، فلا يجد في حياته هدفًا خاصًّا، ولا يدرك دائرة الإبداع والابتكار، إضافة إلى صعوبة التّكيّف مع المعطيات والمتغيّرات من حوله.

وللمساعدة نفيدك بالمزيد من التّفاصيل:

أولاً: بناء توجّهات دينيّة، وتنمية الوازع الديني عند ولدك يحتاج إلى تكوين شخصيّة قائدة ليكون قادرًا على التّمسّك بالنّداء الفطري الرّوحي وتمكين علاقته بالله –سبحانه– وتكوين تلك الشّخصيّة يحتاج إلى تكامل المنظومة التّربويّة التّالية:

– الأسرة: لا بدّ من بناء بيئة أسريّة يصل من خلالها لولدك مشاعر الانتماء لهذه المنظومة، وأنّه يحمل رسالة خاصّة به، بعيدًا عن التّسلّط والقسوة، والصّرعات المستمرّة حول مستقبله، وكذلك الحماية الزّائدة، والحذر المبالغ فيه من التّجربة والخطأ؛ لأنّ التّجارب الفاشلة هي نافذة العبور لتحقيق الكثير من النّجاحات، إضافة إلى توسيع مدارك ولدك وغرس القيم من خلال ربطها بالمناهج التّربويّة، والتأثير الجاذب للوسائل المنبثقة عن خبرات تربويّة ضليعة في هذا المجال.

– مجموعة الأصدقاء والأقران: لا شك بأنّ جماعة الأصدقاء هم الفئة التي تشكّل الأثر الأكبر في اكتساب القيم والسلوكيّات، كما تعدّ مجموعة الأقران بمثابة المحرّك الذي يعمل على تغذية الأفكار وتنقيحها، إضافة إلى أثرها البالغ في تحقيق التّوازن النّفسي الاجتماعي، ونشكر اهتمامك في مساعدة ولدك في هذا الجانب، ونفيدك بأنّ حاجة ولدك للتّعامل مع الآخرين والتّعرّف على نماذج الصّداقة الصّالحة تحتّم عليه مقابلة بعض النّماذج السّلبيّة، وكي يكون قادرًا على رفض تلك النّماذج غير الصّالحة لا بدّ أنْ يكون على القدر الكافي من القوّة لرفضها، أو فرض شخصيّته ونمط فكره الصّالح ليكون قدوة مؤثّرة عوضًا عن التأثّر، فلا تمنعي ولدك من الاحتكاك مع بعض المجموعات حرصًا على حمايته من اكتساب بعض السّلوكيّات الدّخيلة، بل اغرسي فيه القوّة والثّبات على التّمسك بالمبادئ وفرضها، ودرّبيه على أنْ يقول: لا، وإنْ لم يقُلها لك عندما تتعارض رغباته مع رغبات الأسرة، فلن يقولها يومًا لغيرك.

– المدرسة: التي تعدّ بؤرة رئيسة لتنمية وتعزيز العادات الإيجابيّة، ورعاية تطوّرها بالتّشجيع والدّعم، فالكلمة الواحدة التي يلقي بها المعلّم على مسامع الطّالب كفيلة بأنْ تعمل على بناء وهدم الشّخصيّة على المدى البعيد، كما أنّ إحلال بدائل سلوكيّة والتّعديل على بعض جوانب النّقص التي نشأت خلال مراحل الطّفولة لا يكون ممكن إلا من خلال المدرسة، كونها الحلقة الأولى التي تفرض القوانين غير القابلة للنّقض أو التّفاوض.

– الوسائل الإعلامية والعالم الإلكتروني: وهي أدوات خفيّة لا يلتفت إليها كثيرًا البعض، مع أنّها أصبحت شريكة منافسة في بناء توجّهات أبناءنا كافّة، وكذلك ابنك -حفظهم الله جميعًا- وتأثير تلك الوسائط بالمثيرات الثلاثيّة لها: المقروءة، والمسموعة، والمرئيّة؛ تُعد من أعظم التحدّيات التي تواجه ولدك كسائر جيله، لأنّها قناة التواصل الأولى التي تشبع خياله، وتغرس في فكره وعقله التّوجّهات والقناعات والكثير من العادات والمعتقدات، ومنها ما يؤدّي إلى التّأثير الآني، ويظهر بصورة مباشرة، ومنها ما يظهر على شكل حصيلة تراكميّة على المدى البعيد.

– البيئة المجتمعيّة (الجماعات الإنسانيّة): ويقوم دور الجماعات المحيطة بولدك على تفتيت روح الأنا وإذابتها في بوتقة الجماعة، لتمكين ولدك من الشّعور بالعضويّة ضمن البيئة المحيطة، ومن هذه الجماعات الأسرة الكبيرة، الجيران، مجموعة المسجد، صداقات الأسرة، بيئة التّسوّق، وغيرها، ومن خلال هذه البيئة يبدأ إتقان دور الشّراكة والتعرف على مفهوم الحقوق والواجبات والقيم التي لا بدّ له من التّمسّك بها ليكون مقبولاً من قبل هذا المجتمع القائم على التّعاون والشّراكة الوجدانيّة، ويبدأ بالشّعور بالفخر والاعتزاز وكذلك الانتماء لهذه العائلة المتشعّبة الكبيرة، مما يزيد لديه من الدّوافع والحوافز للتّحلّي بالوازع الديني.

ثانيًا: من غير الممكن أنْ تقولي لولدك عليك الالتزام بالعبادات والتّوجّهات الدّينيّة، وعليك أنْ تكون قدوة؛ لأنّه لن يكون رجلاً آليًا ولن يفعل ما يطلب منه دون أنْ يدرك أنّ ما يفعله شيئًا مرتبطًا بروحه وقلبه، دون أنْ يحبّ ما سيؤدّيه، ودون أن تكون لديه صفات إسلاميّة حميدة يقوم عليها بعد ذلك الوازع الدّيني، ومع كلّ شعبةٍ من شعب الخلق الحسن تستيقظ في جوفه فطرته الخالصة المستغرقة شغفًا في العبوديّة لله، ولا شيء يبني على تلك الفطرة السّويّة الوازع القوي كما القدوة، فلا تعجلي الوقت ولكن اجتهدي بكلّ طاقات العطاء، واجعلي لولدك حلقة من الصّفات التي يلمسها في أركان أسرته، ثمّ اتيحي له الفرص ليكون قدوة فيها، ومن هذه الصّفات التي تعد الوعاء الآمن لتنمية الوازع الدّيني:

– الخلق الحسن: من خلال التّعامل مع عناصر حياته كافّة بالحسنى، ومن بين الكلام الذي ربّما نعتبره عاميّاً مع أنّه مبدأ ونهج ديني تربوي كلمة «حرام»، ونستخدمها كثيرًا لنغرس في نفوس الأبناء ردع أنفسهم عن التّصرّف بسوء، أو لنمنعهم من الإساءة للأشياء والمخلوقات من حولهم، سواء إنسان أو نبات أو حيوان، وإدراك حقيقة هذا الغرس اليسير على نفوس الأبناء في تنمية الوازع الدّيني.

– الاعتماد على النّفس: امنحيه الفرصة لأداء المهام الخاصّة به لوحده، من خلال تعزيز كفاءته على الأداء بالثّناء والتّعزيز والتّعبير عن حاجتك إلى مساعدته، وأنّه عنصر هام في أداء الكثير من المهام ولا يمكن الاستغناء عنه، مما سيجعله شديد الثّقة بنفسه راغبًا دومًا بأنْ يكون شريكًا لك ولوالده في تحمّل الأعباء الذاتية والعامّة.

– المبادرة، الشّجاعة، الجرأة: عليك أنْ تجعلي من والده قدوة له في كافة الصّفات، وأنْ تروي له بعض المواقف التي تعبّر عن تلك الصّفات من حياة السّلف، وعليك أنْ تخبريه بأنك تجدين فيه بعض الخصال التي تذكّرك بشخصيّات قياديّة وبطوليّة، ودعيه يؤمن بذاته ويحترمها ليكون أهلاً للاقتداء بالقادة ويصبح علاّمة في الخلق والدّين.

– وعلى نسق ما سبق اغرسي فيه الأمانة، الإخلاص، الوفاء بالعهد، العطف على الصّغير واحترام الكبير، الإيثار، الحب والرّحمة والعدل، والصّدق، طاعة الوالدين إلا فيما يغضب الله.

ثالثًا: الوسائل التي يمكن تسخيرها لمساعدة ولدك في تنمية الوازع الدّيني:

– رحلات الحج والعمرة الجماعيّة.

– إحياء علاقة ترابطيّة وثيقة بين ولدك وبين الأهداف الدّينيّة العظيمة ليكون قادرًا على الاستمراريّة في تحقيق الطّموحات، واجعلي قلبه يكتنزُ حبًّا ورغبة في أداء ما يقوم به ليتمكّن من إنجازه.

– مرافقة والدة إلى دور العبادة مثل المساجد، مراكز تحفيظ القرآن، حلقات الذّكر، المحاضرات الدّينيّة، بعض الشّعائر الدّينيّة، المصاحبة لبعض العبادات كموائد الإفطار في رمضان.

– أعمال التّطوع مثل: رعاية الأيتام في الدّور المخصّصة لهم، من خلال توفير مبلغ شهري خاص له يضعه في جمعيّة خيريّة لكفالة يتيم، ويتابع شؤونه وتطوّر حالته التّعليميّة والمعيشيّة.

– العطاء والإحسان، مثل: الاعتناء بالحيوانات الأليفة والنّباتات، أو رعاية ومساعدة شؤون أحد إخوته وتقديم الدّعم والتّوجيه للمحتاجين ممن هم حوله.

– المسئوليّات والمهمّات القياديّة، ودور الموجّه وصاحب القرار.

– الدّعاء والذّكر والصدقة، وقراءة القرآن؛ فهي من وسائل تحقيق الأمنيات والإصلاح التّربوي الفطري اليسير والمتوفر بلا عناء.

– اختيار المكان والمؤسّسة التّعليميّة المناسبة لتكون دعامة موائمة لتحقيق أهدافك التّربويّة.

– تنمية محركات الضّبط والرّقابة الدّاخليّة من خلال حثّه على التّقوى وخشية الله.

– غرس مفهوم الثّقافة الإيمانيّة وأهميّة القراءات التي تقرّبه إلى الله وتزيد من مخافته وحبّه والتّعلّق بذاته سبحانه ومنها في جانب العبادات وأخرى في المنهج الإسلامي.

– تمرين ولدك على العبادات اليسيرة كحثّه على الذّكر وأثره على إحياء القلب والعاطفة، وتيسير الطّاعات والعبادات وحفظ الأحاديث والقرآن الكريم، بدءًا بأجزاء بسيطة، وتذكيره ببعض فضائل السور القرآنيّة وأثرها على الحياة في الدّارين.

– تلبية احتياجاته النّفسيّة؛ لأنّها مفتاح الاستجابة والإحسان في التّربيّة والذي سيردّه لك عرفانًا بالمعروف، ولا يخفى عليك تلك الحاجات وهي: التّقبّل، الحب، التّقدير، والإنجاز، التّفهّم والاستقلاليّة، الاحترام، والأمان والانتماء.

أخيرًا: الحرص على حضن الأسرة الحاني الذي يستشعر ولدك من خلاله عبادة التّفكّر في عظمة المولى الذي رزقه النّعم، كما أنّ التّأمّل وإياه في الكثير من الحقائق الكونيّة من الأمور التي تنقذ فطرته السّليمة من الضياع وتردّها دومًا للاستسلام إلى بارئها.

نسأل الله أن يمنّ عليكِ بتحقيق أهدافك وأهداف ولدك، إنّه ولي التّوفيق والقادر على ذلك.

المصدر: المجتمع