من قديم الزمان كان العرب يتفاخرون بالشجاعة كما يتفاخرون بالكرم، والسبب في ذلك أن أهل البادية كانوا يعيشون وحدهم بعيدا عن حماية أي سلطات، وكانوا يحملون السلاح دائماً، يعيشون في الصحراء غير محتمين بأسوار أو جدران أو أبواب، وهم (ينفردون في البيداء مدلين ببأسهم، واثقين بنفوسهم، قد صار البأس لهم خلقاً والشجاعةسجية). فكانوا يتنافسون في الشجاعة والفروسية، وإن الصحراء تربي في نفوس أبنائها صفات الشجاعة والجرأةوالكبرياء العنيدة، كبرياء الرجال الأحرار، فلا عجب أن كانت الشجاعة خلقاً عاماً عند العرب.

وكان عنترة بن شداد يقول:

لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ويقول َطَرفة بن العبد:

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

الإسلام والشجاعة

إن ما دعا إليه الإسلام هو الجوهر الحقيقي للشجاعة، الشجاعة في الحق، لا الحمية في الباطل، والجهاد الخالص لله، لا للسمعة والرياء. إن الشجاعة عنوان القوة في الرجال، وعليها مدار إعزاز الأمة ورفع شأنها، ولذلك عدها الإسلاممن أكرم الخصال.

وما كانت الشجاعة في الإسلام للتبختر والخيلاء، والاعتداد بالقوة والرياء، وإنما جعلت لإظهار حق في هذه الحياة،أو إزهاق باطل أمر الله بإزهاقه، ولذلك فإن المسلم حين يقاتل يكون قتاله في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن أجل إنقاذالمستضعفين في الأرض. قال الله تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] [البقرة: 193].

إن الشجاعة في نظر الإسلام، شجاعة مقيدة بأوامر الشرع فلا شطط ،ولا ظلم، ولا عدوان، إنما هي عزيمة صادقة، وهمة عالية لإحقاق الحق، وإرادة نافذة لضبط النفس عن شهواتها ونزواتها.

وبذلك أصبحت غاية الجهاد في الإسلام، الفوز بمرضاة الله تعالى، وجنة عرضها السماوات والأرض: [إنَّ اللَّهَاشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ] [التوبة: 111].

وعلى أخلاق الشجاعة تربى قادة عظماء خاضوا معارك فاصلة في تاريخ العالم، فخالد بن الوليد بطل اليرموك، وسعد بن أبي وقاص بطل القادسية، وأبو عبيدة بن الجراح قائد فتوح الشام، صحابة كرام أخضعوا الدول الكبرى من أجلإعلاء كلمة "لا إله إلا الله" خفاقة ونشر العدل في الأرض تحت ظل الإسلام.

وإننا بحاجة اليوم لغرس أخلاق الرجولة والشجاعة في أبنائنا، لاستعادة أمجاد أمتنا، وذلك بالسير على طريق النبيوأصحابه ومن تبعهم بإحسان من الذين تفانوا في خدمة هذا الدين، الذين استهانوا بالموت فوهبت لهم الحياةالكريمة.

شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم

وقد تميز المسلمون بهذه الشجاعة النادرة، وكانوا عند أوامر ربهم، فرفعوا لهذا الدين راية، وأصبحوا في شجاعتهم مضرب الأمثال، وقدوتهم في ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله عز وجل في الرحمة والرأفة فقد كان أيضا آية في القوة الشجاعة، فكانت قوته لا يعدلها قوة، وشجاعتها لا توازيها شجاعة، وفي الصحيحين أنه "كان أشجع الناس"، ويكفي بأسه العجيب في دعوة قومه حين كان الإسلام غريبًا!

تأمل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وهو من هو في الشجاعة والقوة - كنا "إذا حمي البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم."

وأخرج الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة (رضي الله عنه) في عنقه السيف وهو يقول: «لن تراعوا لن تراعوا».

وفى غزوة حنين عندما انكشف المسلمون ثبت النبي عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الشجاع الذي يحاذي به).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أُمته الشجاعة في كل الميادين، بداية من ميدان الكلمة وانتهاء بميدان الجهاد في سبيل الله، ومن أعظم هذه الميادين التي يُؤَكِّد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ميدان مواجهة الظلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر"

وهو صلى الله عليه وسلم القائل أيضًا في فضل الجهاد والإقدام بالنفس والمال: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌمِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"

وإذا استعرضنا عددا من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف أحداث الحياة سيكتمل تصورنا لحقيقةالكمال الإنساني الذي تحقق في شخصية النبي ﷺ، فقد جمع بين الرشد العقلي والعاطفة القلبية والتوازن النفسي،وبين المودة والمحبة والهيبة والعظمة.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فذا متفردا لا مثيل له بين الرجال، كان صاحب قلب رءوف رحيم سليم، وكان أيضا صاحب عقلية عبقرية ذكية مؤيدا بوحي من الله، كان عالما مثقفا مدركا فاهما لكل ما حوله من شخصيات وأحداث، كان لا يعرف معنى للكسل ولا للوهن، وإنما كان صاحب نشاط عظيم وافر المجهود، كان قويا شجاعا كريما عادلا، محببا إلى الناس، يتمتع بالكفاءة والمهارة في كل ما يليه من أعمال، كان شخصية متميزة عمن حوله.

الجرأة في قول الحق

ومن أنواع الشجاعة الجرأة في قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أفضل الجهاد كلمة حق عند إمامجائر.

وكانت سيرة علماء هذه الأمة ناصعة، لأن الأمر بالمعروف واجب شرعي، ومن هذه المواقف: موقف الإمام ابن تيميةرحمه الله مع قازان ملك التتار، ومما جاء في مقابلته قوله: (أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام.. فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا َفَوَفَّيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت)، ثم خرج من بين يديه مكرماً معززاً.

فقد بذل نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله ما أراده وكان سبباً لتخليص غالب أسرى المسلمين من أيديهم.

وكان رحمه الله يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.

ومن العلماء الشجعان العاملين لنصرة الإسلام: الإمام العز بن عبد السلام، الذي نذر نفسه للجهر بكلمة الحق.

ذكر السبكي في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصرثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم. الحانة الفلانية تباع فيها الخمور. فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبى. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: [إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ]. وقد أمر السلطان بإقفال الحانة على الفور،ثم يسأل الشيخ أحد تلاميذه: أما خفته؟ قال الشيخ: والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط. [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ].