الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (سورة العنكبوت: 69).

        إن اكتمالَ التربيةِ العميقةِ والتكوينَ الدقيقَ يظهران في نفسٍ تطلب الشهادةَ وتحب لقاءَ الله، وتقللُ من أسباب الترف الرخيص، وتُؤثر ما عند الله، وتفلتُ من أسْرِ الشهواتِ الدنيئةِ والأغراضِ الفاسدة، ووسائلها في ذلك: اتصالٌ بالله لا يفتر، وتدبرٌ للوحي المبين، واتباعٌ لتوجيهات النبوة، وتلمّسٌ لمناقبِ الأفعال ومحاسنِ الأخلاق، وملازمةُ لثغور الدعوة، ومرابطةُ في ميادينِ الرسالة، لا يبرحون أماكنهم -كدأب أصحاب الدعوات-  ولا يغادرون ميدانَهم، ولا يتركون مواقعَهم، حتى يأتيَ أمرُ الله وهم كذلك، فإما حياةٌ تسرُّ الصديقَ وإما مماتٌ يغيظُ العِدا.

        إنه طريق يتقدم فيه القادةُ الربانيون فيجودون بأرواحهم، ويجاهدون بأنفسهم وأموالهم، فإن مضى أحدُهم إلى ربه، ونال موعودَه الذي لا يفوت، خَلَفَهُ مَنْ يحمل الرايةَ، ويقودُ الركبَ في ميدان الجهاد، وفي ساحة الاستشهاد، فيُلهبون عزائمَ الجُند المباركِ بدمائهم الزكية المِهراقة، فإن مات زيدٌ حمل الرايةَ من بعده جعفر، فإن قضى جعفرُ حمل الرايةَ من بعده عبدُ الله بن رواحة، فإن ارتقى عبد الله بن رواحة سيحمل الرايةَ من بعده خُلوف عُدول يُولدون في بيوت الدعوة ويشبّون في ميادينها الواسعة، فمن جهاد البنا ودعوته إلى ذي الهمة أحمد ياسين وكرسيه المتحرك وليس انتهاءً بعصا السنوار، قافلة مباركة في دعوة كريمة بعضها من بعض.

        يقول اﻹمام البنا ـ رحمه الله ـ في رسالة الجهاد : "إن الأمة التي تُحسنُ صناعةَ الموت، وتعرف كيف تموت الموتةَ الشريفةَ؛ يهبُ الله لها الحياةَ العزيزةَ في الدنيا، والنعيمَ الخالدَ في الآخرة، فاعملوا للموتةِ الكريمة؛ تظفروا بالسعادةِ الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامةَ الاستشهاد".

غزة بين التضحيات والخذلان

        واليوم وفي ظل تصاعد الأحداث الجسام على أرض فلسطين وارتقاء الشهداء تلو الشهداء من القادة والجنود ما زالت الراية مرفوعة والغاية واضحة بينة، والمبادئ راسخة، ومقارعة الباطل مستمرة، والتدافع قائم؛ في ظل صمود أسطوري لشعب بطل وحاضنة تتحرى طريقها إلى الله وتقدم كل يوم الغالي والثمين. يأتي ذلك على الرغم مما تعيشه القضية الفلسطينية في مرحلة هي أحرجَ مراحلها في ظل التصعيد المتواصلِ والعدوانِ الصهيوني الغاشم المستمر على قطاع غزة، حيث تتسارع قوائم الشهداء وتتسابق إلى جنة عرضها السموات والأرض مقبلين غير مدبرين؛ ليُضافوا إلى قائمة طويلة من الأبطال الذين سطّروا بدمائهم صفحاتٍ مجيدةً من نضال الأمة.

        إن محاولات العدو الصهيوني المتكررة لاغتيال القادة ليست إلا مرحلة في سلسلة طويلة من المحاولات الفاشلة التي تهدف - في اعتقاده الفاسد- إلى كسر إرادة الأمة والنيل من حريتها، ولكنْ هيهاتِ مِنّا الذِلةُ {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} (آل عمران: 160)، ويقينًا فإن التضحياتِ الكبيرةَ ممثلةً في استشهاد القادة لا تُضعف المقاومةَ؛ بل تقوِّيها، وتزيد من تصميم الأمة على السير في طريق التحرير مهما كلّف الأمرُ.

        لقد تكررت مشاهد الحصار الوحشي الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني الغاشم على مخيم جباليا وشمال قطاع غزة، بل وفي مجمل القطاع حيث يمنع الغذاء ويعرقل دخول المساعدات ويحاصر المستشفيات ويمنع دخول الدواء، بما يكشف عن إصرار العدو على إبادة المدنيين، واستهداف البيوت الآمنة بقتل الأطفال والنساء بلا رحمة على مرأى ومسمع من عالم يدِّعي الإنسانية والدفاع عن الحقوق والحريات!!

        وعلى الرغم من هذه المجازر المستمرة، لم يفلح العدو في كسر إرادة المقاومة، بل يقف رجال غزة شامخين كأشجار الزيتون الراسخة جذورها في الأرض، هؤلاء الأبطال الذين يحمون جبهات الوطن بأسلحتهم البسيطة وإيمانهم العميق، يعكسون دور المقاومة البطولي في مواجهة آلة الحرب الصهيونية.

        ولعل أشد ما يُحيّر ويغيظ العدو هو هذه الحاضنة الشعبية التي تلتف بثبات حول المقاومة؛ فالدم الفلسطيني بات وقودًا لصمود جديد، والشعب يستقبل جرحاه وشهداءه بروح من الإيمان بقضية عادلة. وفي ظل هذه الظروف القاسية يبرز دور المرأة الفلسطينية أمًّا وزوجة وأختًا كمثال يُحتذى به في التضحية والصمود، بل هي أيضًا مقاومة بصبرها وتربيتها للأجيال القادمة على حب الوطن والاستشهاد في سبيل الله.

        ولا يتوقف العدوانُ عند حدود غزة؛ فالاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى المبارك تُمثّل اعتداءً صارخًا على مقدسات الأمة الإسلامية، إلا أن هذه الانتهاكات المتكررة للأقصى تأتي وسطَ صمت مُطبق من العالم الإسلامي والعربي، وتقاعسٍ غير مسبوق من أنظمة كان يُفترض أن تكون حاميةً لحقوق الأمة ومقدساتها، في ظل طموح صهيوني توسعي لم يعد خافيًا على أحد، ويمتد هذا العدوانُ الغاشمُ ليطالَ أهلَنا في لبنانَ فيقتل المئات ويشرد الآلاف، بل من المتوقع أن يمتد إلى مزيد من البلدان في ظل الصمت العالمي والعربي والإسلامي المهين، وفي ظل تلك الأنظمة الاستبدادية التي تهدر مقومات الأمة ومقدراتها ومقدساتها، وتبيعها في صفقات مشبوهة.

        إن واجب الأمة الإسلامية في هذه اللحظة الراهنة ومسؤوليتها التاريخية والشرعية تجاه فلسطين يحتم عليها بأكملها - خاصة علماءها ودعاتها - العمل الجاد لنصرة القضية بالدعم المادي والمعنوي، والتحرك السياسي والإعلامي، واستنفار الشعوب لتضغط على الأنظمة وتضرب على يد الظالمين؛ للتوقف عن حالة الخنوع أمام العدو، والسعي لتغيير المنكر الأكبر، يقول النبي ﷺ: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (صحيح مسلم).

وما زالت معاناة أهلنا في مصر الحبيبة مستمرة

        إن الناظر إلى الواقع الذي تعانيه فلسطين في ظل الإجرام الصهيوني والتخاذل العربي الرسمي لن يستطيع أن يصرف نظره عن مصر الكبيرة التي غابت في ظل الانقلاب المشؤوم عن دورها الرائد ومكانها الذي يليق بها، خاصة في قضية فلسطين التي ترتبط بأمنها القومي.

        وبدلًا من توجيه إرادة الشعب وإطلاق يده لتقديم كل صور العون لإخوانه على مرمى حجر في غزة العزة ينصرف الانقلاب إلى مزيد من الإذلال للشعب المصري، والسعي لإفشال الدولة في كافة المجالات، حيث يعاني المصريون من تردي الأوضاع الاقتصادية وحالة التخبط الواضح وعدم وضوح الأولويات، بل والتفريط في أصول الوطن من أراضٍ وشركات ضخمة ومطارات وموانئ وغيرها مقابل حفنة من الدولارات لا تكفي لسداد الالتزامات.

لقد بات من الواضح أن المؤسسات الأجنبية، وعلى رأسها صندوقُ النقد الدولي، أصبحت هي من تدير الاقتصادَ المصريَ وتتحكمُ فيه بشكل كبير، ولا تملك سلطةُ الانقلاب إلا السمعَ والطاعةَ وتنفيذَ التعليمات، بعدما أُدخلت البلاد في نفق مُظلم من الديون والالتزامات، وكل ذلك يدفع ثمنَه المواطنُ البسيطُ الذي لم يعدْ يجد ما يقيم به حياته ويرعى به أبناءه، فارتفاع الأسعار بات ممنهجًا بلا أي مراعاة لمصالح المواطنين، ولم يعد التضخمُ يقتصر على السلع الكمالية، ولكنه أصاب السلعَ الأساسيةِ واحتياجاتِ الحياة الضرورية، فبعدما قامت سلطات الانقلاب برفع سعر الخبز منذ فترة قصيرة بنسبة 300% فاجأت الجميعَ وبلا خجل برفع أسعار المحروقات بنسبة 17% للمرة الثالثة خلال هذا العام فقط.

        إن إدخال مصر في نفق الديون لم يأت صدفة، ولكنه تم عن قصد وبفعل فاعل ليصرف مصر الكبيرة عن دورها الرائد في المنطقة بشكل عام وفي فلسطين بشكل خاص، وذلك لصالح هيمنة الدولة الصهيونية التي تنشر الخراب والدمار في المنطقة بغرض تكريس الهيمنة الاستعمارية، وتسليم نقاط استراتيجية في شرق مصر وغربها في البر والبحر  لشركات متعددة الجنسيات تحت غطاء استثمارات دول عربية، حيث تضاعف الدين العام على مصر خمس مرات منذ استيلاء سلطة الانقلاب على الحكم، وتجاوز حجمُ الدين العام 100% من الدخل العام للدولة، حيث بلغ الدين الإجمالي حوالي 153 مليار دولار بعدما تم سدادُ مبلغَ 14 مليارًا من حصيلة بيع  رأس الحكمة، واحتلت مصر المرتبة الثانية في قائمة الدول الأكثر مديونية في قارة إفريقيا، مع توقعات بعدم القدرة على الخروج من دوامة الديون قبل عام 2071 م. وتم طرح أربع مطارات وموانئ استراتيجية لتلك الشركات القارية بغطاء عربي كذلك، فضلًا عن هدم أماكن تاريخية في مصر القديمة وتجريفها دون بيان الأسباب الحقيقية، وتم قطع الأشجار وتخريب العمران الثقافي لمصر وتهجير المواطنين من جزيرة  الورّاق وغيرها، وعمل حصار دائم على الناس دون رؤية ودون حوار منصف مع أصحاب الحق، وإنما استعمال القوة الغاشمة وإهدار حقوق الناس دون محاسبة أو أي اعتبار.

هكذا باتت مصرُ في عهد الانقلاب مرهونةً للمؤسسات الأجنبية وحكومات الدول الأخرى، ولا تجد هذه السلطةُ سوى بيعِ أصول الدولة لمحاولة سداد الديون وفوائدها؛ فلا تعليم ينمو ولا صناعة  تزدهر ولا صحة تتحسن، بينما على الجانب الآخر نجد إهدارًا غير طبيعي في مشاريعَ ليس لها أولويةٌ وتضخمٌ في اقتصاد المؤسسة العسكرية، دون محاسبة أو مساءلة ولا حتى إشراف من أي جهة رقابية، فضلًا عن الإعفاء الضريبي والمزايا التنافسية التي تقضي على أي أمل في استقطاب رؤوس أموال من الخارج أو إقناع المستثمرين بالدخول للأسواق المصرية، فالجميع يعلم أن دفتي النهوض الاقتصادي هما الأمان والعدالة الاقتصادية، وهو ما لا يتوافر في مصرنا الحبيبة حاليًا في ظل سلطات الانقلاب التي أفقدت البلاد أمنها وسلامة مواطنيها فضلًا عن تفريطها في الحفاظ على ثرواتها وسلامة أراضيها.

الانتخابات الأمريكية .. ديمقراطية بدون قيم ولا أخلاق 

        وعلى صعيد العالم نجد أنفسنا بين يدي الانتخابات الأمريكية التي تجري أحداثُها في ظل حرب ضروس وإبادة جماعية لسكان غزة استمرت على مدار أكثر من عام، وسط دعم أمريكي واسع وصريح غير مستتر؛ لتختفي في ظل الحماية الأمريكية كافةُ الخلافات بين المتنافسين وتضيق الفجواتُ بينهما عندما يتعرض الكيانُ الصهيونيُ لما يمكن أن يهدد بقاءه واستمرارَه؛ ليكون الاحتلالُ هو كلمة السر التي تجمع المتعارضين.

        لقد أسفرت هذه الانتخاباتُ عن الوجه الحقيقي للديمقراطية الأمريكية التي تمثل أكبرَ خديعة للقيم الإنسانية، عندما يقف الإنسان بين حزبين يتنافسان على من يقدم منهما مزيدًا من الضحايا، ويُمعن في إهلاك الحرث والنسل وإزهاق الأرواح بين النساء والأطفال والمدنيين تقربًا إلى اللُّوبي الصهيوني وحمايةً للمشروع الاستعماري، وميلًا مع اتباع الشهوات في الهيمنة والاستكبار في الأرض، ودهسًا لقيم الحرية للجميع والعدالة للجميع.

        إن الملايين من الشعب الأمريكي، وخاصة من الشباب الذين خرجوا يطالبون بوقف هذه الحرب الهمجية وينحازون إلى حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ويُدينون تلك المجازرَ التي يشارك فيها السلاحُ الأمريكيُّ بكل قوة، هؤلاء جميعًا من أهل المروءات والشيم الإنسانية من الشعب الأمريكي يقفون اليوم في تلك الانتخابات بلا خيارات، ولا يجدون في المتنافسين ضالتَهم، ولا يعثرون في الديمقراطية الأمريكية النفعية الدعائية على من يُعبّرُ عنهم أو يتبنى فكرتَهم في أروقة السلطة.

        لقد كشفت هذه الانتخاباتُ عورةَ الديمقراطية الأمريكية وأوضحت أن الكلمة المؤثرة في هذه الانتخابات لمجموعات الضغط الفاسدة (اللوبيات النفعية والانتهازية) ولرجال الأعمال والمصالح ونفوذ الصهيونية العالمية التي تختار المرشحين على عينها وتنتقي المتنافسين وفقًا لشروطها.

        إنها ديمقراطية غير أخلاقية وغير إنسانية تدعم الاحتلالَ وترعى الاستبدادَ في العالم، وتسوِّق للدكتاتوريات التي تسحق الشعوبَ، وتستهدف مقدراتِهم ومواردهم، فتختفي الأخلاقُ من برامجها والقيم من أدبياتها وتحل بدلًا منها شريعةُ الغاب.

        إننا اليوم نقف أمام واقع جديد انكشفت فيه الوجوه اللاأخلاقية للهيمنة الأمريكية وظهرت حقيقتُها أمام شعوب العالم، التي يتوجّبُ عليها أن تلتقط الخيط وتسعى للإفلات من قبضة هذا المشروعِ الاستبدادي؛ بحثًا عن البديل الراشد والخيارِ العادل، الذي يحفظ على الشعوب الحرة حقَّها في الحياة والاستقلال والعيش الكريم؛ وهو مالا يتأتى سوى بوضوح الرؤية وتحديد الهدف.

من أخبار الجماعة

        عقد تليفزيون وطن مؤتمرًا افتراضيًّا عالميًّا لتأبين الشهيد القائد يحيي السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بمشاركة 50 شخصية من علماء ومفكرين وسياسيين من عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، طالبوا فيه بتوحيد الأمة بالدعم والإسناد الروحي والإعلامي والمادي للمقاومة في فلسطين إزاء الصلف الصهيوني، وردع جنوده في مختلف الساحات والجبهات، وطالب المؤتمر بضرورة انخراط الأمة في الطوفان بهدف إفشال المؤامرات التي تحاك ضد الأمة. كما شاركت الجماعة بوفد لتقديم العزاء في الشهيد السنوار في مؤتمر التأبين الذي أقامته حركة حماس بمدينة استنبول بتركيا.

واللهُ أكبرُ  وللهِ الحمد

أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "

الجمعة: 29 ربيع اﻵخر 1446 هجرية - الموافق 01 نوفمبر 2024م


اضغط هنا لتحميل الرسالة PDF