د. محيي حامد
إن المرحلة الراهنة التي تمر بها الأمة الإسلامية والدعوة المباركة توجب على كل العاملين للإسلام أن يستشعروا عظم المسئولية الملقاة على عاتقهم تُجاه أمتهم ودينهم ودعوتهم، وما يتطلبه ذلك من همة عالية وعزيمة صادقة للنهوض بالأمة من كبوتها، وإيقاظها من غفوتها، حتى تتحقق آمالها وطموحاتها التي نسعى إليها، بأن يتحرر الوطن الإسلامي من هيمنة المشروع الصهيوني الغربي الأمريكي، وأن تحظى الأمة الإسلامية بتطبيق مشروعها الإسلامى الذي يتناول جميع مناحي الحياة، إنها بلا شك لمهمة ثقيلة ومسئولية عظيمة تحتاج إلى الرجال الخلصاء الصادقين والقادرين على حمل الأمانة وأدائها على أكمل وجه حتى يأذن الله بالتمكين لدينه وسيادته الدنيا وإرشاده البشرية.
ولقد شاءت لنا مشيئة الله وقدره أن نعيش هذه المرحلة بكل ما فيها، وأن نعمل على إنقاذ الأمة الإسلامية من الخطر المحدق بها من كل ناحية، وأن نحمل لواء هذه الدعوة المباركة، ويذكرنا الإمام البنا رحمه الله بالعدة اللازمة لذلك، فيقول :
((إن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها؛ لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات، أو تتعلل بالأمانيّ أو الآمال، وإنما عليها أن تعُدّ نفسها لكفاح طويل وعنيف، وصراع قوي شديد بين الحق والباطل. وليس للأمة عدة في هذه السبل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء والتضحيات، والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تُغلَب على أمرها ويكون الفشل حليفها))
إن الإحساس بالمسئولية نحو تغيير الواقع الحالي لأمتنا وحكوماتنا ومجتمعاتنا وشعوبنا، والعمل من أجل تحقيق الإصلاح الشامل؛ يحتاج إلى الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، ويحدد الإمام البنا رحمه الله مقومات ذلك بقوله :
((إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ؛ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا – أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل – إلى قوة نفسية عظيمة، تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن أو غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع أو بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه أو الانحراف عنه أو المساومة عليه أو الخديعة بغيره ))
إن هذه المقومات الأربعة :
(الإرادة القوية – الوفاء الثابت – التضحية العزيزة – معرفة المبدأ والإيمان به) هي بحق مقومات الدعوة الراشدة والأمة الناهضة التي إذا اتصَفَتْ بها تحقق لها ما تريد من إقامة الدولة الإسلامية العالمية التي تهدي البشرية وتقيم أعظم حضارة عرفها التاريخ بعد أن أفلست كل النظم البشرية .
إن طريق الدعوة إلى الله به الكثير من الصعاب والعقبات التي تعترض الدعاة والمصلحين، والتي تتنوَّع أشكالها وصورها، بهدف تعويق حركة الإصلاح والنهوض بالأمة والتمكين لدين الله في الأرض، وفي ذلك يقول الإمام البنا رحمه الله :
(( وستقف في وجوهكم كلُّ الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تَحُدَّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبارَ الشبهات وظُلَم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورةٍ، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومُعتَدَّين بأموالهم ونفوذهم، وستدخلون بذلك- ولا شك- في دَور التجربة والامتحان؛ فتسجنون، وتعتقلون، وتنقلون، وتشرَّدون، وتصادر مصالحكم، وتُعطَّل أموالكم، وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم أمد هذا الامتحان، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كلِّه نصرةَ المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ))
إن هذه الدعوة المباركة لا يصلح لها إلا من أحاط بها من كل جوانبها، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته، ولا يجد ويكد ويجهد في سبيلها إلا إذا أخذت الدعوة عليه لبه، والتحمت مع روحه وقلبه، وكان متحمسًا لتحقيقها في واقع الأمر، ولنعلم أن أسلافنا الكرام لم ينتصروا إلا بقوة إيمانهم، وزكاء أرواحهم، وطهارة نفوسهم، وعملهم على عقيدة واقتناع، فاختلطت عقيدتهم بنفوسهم، ونفوسهم بعقيدتهم، فأصبحوا هم الفكرة، والفكرة هم، ولنعلم أيضًا أن النفوس الحية القوية والقلوب الخفاقة والمشاعر الغيورة الملتهبة والأرواح المتطلعة المتوثبة؛ هي القادرة على إنقاذ الأمة وريادتها، ولننظر إلى ما كان عليه الرعيل الأول من هذه الدعوة المباركة، وكيف كان حالهم الذي لخصه الإمام البنا رحمه الله بقوله
«كنا نسهر نحن الستة الذين أسسوا هذه الدعوة اللياليَ الطويلة نبكي على ما آل إليه حال الأمة»
إن تلك الدموع الساخنة والقلوب الحية والعواطف الجياشة تُجاه هذه الأمة وما آلت إليه؛ هي التي ساهمت في بناء هذه الدعوة المباركة التي ما زالت تقوم بدورها في إحداث الإصلاح المنشود بكل صوره وأشكاله، بالرغم مما تتعرض له من تضيق ومحن وابتلاءات، ولكنه الإحساس بالمسئولية والاستشعار بعظم المهمة المنوطة بنا، فهل انتفضت قلوبنا كما انتفضت قلوبهم؟ وهل استيقظت نفوسنا كما استيقظت نفوسهم؟ وهل استشعرنا عظم المسئولية كما استشعروها؟ وهل أدينا واجبنا نحو هذه الدعوة كما أدوه؟
إننا بحاجة إلى أن نعيش هذه الدعوة بكل نبضات قلوبنا وخلجات نفوسنا، وبصورة تؤرق قلوبنا وتباعد بيننا وبين الراحة أو الدعة أو الاستكانة، وتجعلنا دائمي التفكير بشئون الدعوة والانشغال بها، فهي كل شيء في حياتنا، وبذلك يكون كل منا صاحب رسالة وحاملًا للدعوة، يفكر لها، ويعمل من أجلها بما يحقق مصلحتها أو يدفع الضرر عنها، ولنعلم أن كلاًّ منا على ثغر، فلا تؤتى هذه الدعوة من قبله.
بالرغم من هذه المحن القاسية التي تعرَّضت لها هذه الدعوة على مرِّ تاريخها؛ فقد بقيت هذه الدعوة المباركة بفضلٍ من الله عز وجل أولًا، ثم بثبات هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وواصلوا السير والعمل على طريق هذه الدعوة، رافعين الراية عاليةً ليسلِّموها لمن وراءهم من الأجيال هكذا عاليةً، حتى يتحقَّق وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين. فهل أعددنا أنفسنا بما يلزم لذلك من تضحيات وعطاء؟ ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، فمن منا لا يريد أن يبيع نفسه وماله ويشتري ما عند الله من جنان؟
إن غايتنا وأهدافنا التي نسعى إلى تحقيقها تحتاج منا إلى أن نبذل في سبيلها كل غال ونفيس، ولن يكون ذلك إلا للذين أعدوا أنفسهم وجاهدوها بكل الصور حتى تستقيم على أمر الله مصداقاُ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69)، ولنعلم أن الدولة الإسلامية التي ننشدها لن تقوم إلا إذا قدمنا في سبيلها أرواحنا ونفوسنا، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعًا آثمون مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها .
إن استشعار المسئولية وعظم المهمة المنوطة بنا هو الذي يجعل منا أمة مجاهدة حية يقظة قادرة على تحقيق الأهداف السامية، ولنستشعر هذه الكلمات المعبرة التي يصف فيها الإمام البنا رحمه الله حال المجاهد بقوله :
(( أتصور المجاهد شخصًا قد أعد عُدَّتَه، وآخذ أُهْبَتَه، وملك عليه الفكرُ فيما هو فيه نواحيَ نفسه، فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدًا، إذا دُعي أجاب، وإذا نودي لبي، غدوه ورواحه حديثه وكلامه جده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له. ترى في بريق عينيه وتسمع من فلتات لسانه وتقرأ في قسمات وجهه؛ ما يدل على ألم دفين في صدره. ولا أتصور المجاهد الذي ينام ملأ جفنيه، ويأكل ملأ مضغيه، ويضحك ملأ شدقيه، فهيهات هيهات أن يكون من الفائزين أو في عداد المجاهدين ))
إن هذه الكلمات الصادقة خرجت من قلب صادق مفعم بالإيمان والحب لدين الله، ولكنها تحتاج إلى آذان صاغية قلوبها متوقدة، تعمل جاهدة على أن تحقق ذلك في واقعها، وتحوله من ميدان الكلام إلى ميدان العمل، ومن ميدان القول إلى ميدان الجهاد الصادق لإعلاء كلمة الله عز وجل، ولرفع لواء الحق لإسعاد البشرية جمعاء.
ومن هنا لزم علينا أن نتواصى بعدة أمور؛ منها :
أولًا : استشعار عِظَم المسئولية والأمانة المنوطة بنا تجاه ديننا ووطننا وأمتنا؛ ما يجعلنا نحيا حياة المجاهدين الصابرين .
ثانيًا : استمرار العمل لدين الله دون توقُّفٍ أو انقطاعٍ لتحقيق الغاية المنشودة والأهداف المرجوَّة من هذه الدعوة المباركة .
ثالثًا : الاستمساك بهذا الحق الذي اجتمعنا عليه والثبات عليه مهما تعرَّضنا للأذى أو التشويه، والحفاظ عليه حتى نورثه لمن بعدنا من أجيالٍ دون تحريفٍ أو تغييرٍ أو اجتزاءٍ، بل نكون عليه أمناء، ونلقى ربنا أوفياء غير مبدلِّين ولا مغيِّرين .
رابعًا : التحلي بالصبر واحتمال مشاقِّ الطريق، والعمل على تخطِّي العقبات، والاحتراز من المنعطفات التي قد تعترضنا؛ لأننا ندرك أن النصر مع الصبر .
خامسًا : البذل والتضحية في سبيل هذه الدعوة؛ فارتباطنا بطريق الدعوة ارتباط مصيري وكلي، وليس لحظيًّا ولا جزئيًّا؛ عقدنا فيه بيعةً مع الله أن نقدِّم كلَّ ما نملك من نفسٍ ومالٍ ووقتٍ وجهدٍ في سبيل التمكين لدين الله في الأرض وسيادة الدنيا وإسعاد البشرية بتعاليم الإسلام وقيمه العظيمة؛ لننال رضاء ربنا وجنةً عرضها السماوات والأرض ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، التوبة: من الآية 111
نسأل الله أن يجعلنا من حملة هذه الدعوة المباركة والعاملين في سبيل رفعتها حتى يأذن الله بالنصر والتمكين لدينه في الأرض، كما نسأله تعالى أن يرزقنا الثبات على طريق الدعوة حتى نلقاه وقد وفَّينا وأدَّينا واجبنا نحو ديننا ووطننا وأمتنا، اللهم. آمين.
وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المصدر: زاد السائرين