https://ikhwanonline.com/article/266140
الجمعة ٢٣ ذو الحجة ١٤٤٦ هـ - 20 يونيو 2025 م - الساعة 07:59 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
مقالات

الاستقامة.. طريق النجاة

الاستقامة.. طريق النجاة
الخميس 15 مايو 2025 01:37 م

بقلم: سيد نزيلي

كثيرًا ما أفكر في موضوع "الاستقامة".. التي تعني في ذهني منذ زمن بعيد.. الثبات على المبدأ، وعدم التفريط فيه، أو الاغترار بغيره، أو الانحراف عنه، والغلو فيه، أو الانتقاص منه، يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾ (هود).

 

 

ومعلوم أن هذا الأمر للرسول- صلى الله عليه وسلم- ومَن تاب معه، وقد أحسَّ- صلى الله عليه وسلم- برهبة هذا الخطاب وقوته حتى رُوي عنه أنه قال مشيرًا إليه: "شيبتني هود.."، فالاستقامة من هذه الزاوية هي الاعتدال والمضي على المنهج دون انحراف، وهو في حاجةٍ إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيرًا؛ ومن ثَمَّ فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة؛ كما يذهب صاحب الظلال- رحمه الله- ويشير ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة إلى أن الله تعالى يأمر رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطغيان؛ وهو البغي فإنه مصرعه حتى ولو كان على مشرك.

 

وفي الحديث الشريف يجيب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما سأله أحد الصحابة أن يقول له في الإسلام قولاً لا يسأل عنه أحدًا غيره، يقول- صلى الله عليه وسلم-: "قل آمنت بالله، ثم استقم".

 

وفي تفسير الإمام النووي لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: "سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته".

 

يقول النووي "المقاربة" القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير، و"السداد" الاستقامة والإصابة، و"يتغمدني" يلبسني ويسترني، ومعنى الاستقامة: لزوم طاعة الله تعالى، قالوا: وهي من جوامع الكلم، وهي نظام الأمور.

 

ومن فضل الله على المسلمين؛ أنه ليس في الدنيا نظام يمد الأمم الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام ذلك كله أممه، ومنهج الإسلام يشتمل على كل جوانب الإصلاح، ويأخذ بأيدي بلاد الإسلام؛ بل الدنيا كلها؛ إلى برِّ الأمان ومرفأ النجاة، ويهمنا أن نعرض محاسن الإسلام وفضائله ومبادئه وشرائعه وأخلاقه ومناقبه على كل الناس؛ ليتبينوا أنه المنهج الحق، الصالح المصلح، الذي يمد قارب النجاة إلى البشرية جميعها؛ وانطلاقًا من خصيصة "الاستقامة" على دين الله ومنهجه نريد أن يتعرف الناس على ما في هذا الدين وعلى القوة الكامنة فيه، وعلى شبابه بناة حضارته ومستقبله؛ فنهتم بإعدادهم وتربيتهم على العزة والقوة، لا على الذلة والضعف، يرفعهم الإسلام بإذن الله إلى العفاف والطهر والنظافة الحسية والمعنوية، بدل أن يكونوا نهبًا لوسائل الإعلام المختلفة التي تزين ألوان الميوعة والتحلل من القيم والموازين الأخلاقية، كما تشيع كذلك التفسخ، وتزيين الفاحشة في الأمم؛ بما يؤدي إلى دمارها والعياذ بالله.

 

إن التزامنا بقيمة "الاستقامة" تجعلنا نتحرك حركة دائبة في كل دوائرنا المحيطة بقولة ربعي بن عامر- رضي الله عنه- حيث حدد مهمة الدعوة وعملها الإيجابي في واقع حياة الناس، كل الناس؛ وهي مهمة تغييرية في الأساس، وهذه المهمة تتحدد في إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

 

إن مقتضى "استقامتنا" على نهج الدعوة أن تشيع هذه المعاني السامية في حياة الناس، وأن تكون لصيقةً الصلة بالواقع النفسي الذي يتمثله الدعاة في حياتهم، وتصطبغ به جوارحهم، ويكونوا مثلاً وقدوةً لكل الناس في صدق التوجه لله عز وجل.

 

و"الاستقامة" تعني إعطاء الدعاة والناس أجمعين قوةً إيمانيةً عظيمة تدفع صاحبها إلى الشعور بالمسئولية نحو مستقبل هذا الوطن وهذه الأمة، قوة نفسية تدفع إلى العمل الجاد؛ لتحقيق البناء والازدهار والاستقرار، قوة عظيمة لا تدع فرصة للاستجابة إلى وسائل اللهو غير المباح أو التخدير والخداع بزخرف القول غرورًا، وهي- أي الاستقامة- تجعل الإنسان يقول الحق ولو كان مُرًّا، ولا يخاف في الله لومة لائم؛ ولكن يؤدي ذلك كله بأدب الإسلام وأخلاقه وضوابطه؛ فلا يكون منفرًا ولا فظًّا، ولا غليظ اللفظ، خشن الأسلوب؛ إنما يكون هينًا لينًا، هشًّا باشًّا؛ لأن هدفه ومبتغاه أن يوقظ الآخرين، ويأخذ بأيديهم إلى مرضاة الله، ويكون منهم معه ومع الصادقين الغيورين جَمْعًا يسعى إلى الإصلاح، ويحارب الفساد الذي ينخر في عظام الأمة حتى النخاع.

 

و"الاستقامة" على المنهج الوسطي القويم الذي تتبناه دعوتنا المباركة؛ تجعلنا نهتم بالناس أكثر من اهتمامنا بأنفسنا، ونحب لهم الخير مثل حبنا له وأكثر، ومن هذا المنطلق يجب أن نُربي أبناءنا وأجيال المستقبل فيشبوا على معرفةِ الله والخوف منه والرجاء فيه، وغرس الوازع الإيماني في قرارة نفوسهم وضمائرهم، فيشبون على العزة، وقوة الشخصية، والشعور بالمسئولية؛ فالوطن وطن الجميع، وعليهم أن يدعموا بناءه، ويحمونه من كل معتدٍ أثيم يهدم تاريخه، ويقوض دعائم بنيانه وأركانه وركائزه التي أرساها الإسلام، ولا شيء غير الإسلام يعيد العزة والهيبة الضائعة للأمة ويرد لها اعتبارها، ويحفظ شخصيتها في المحيط الإقليمي والدولي، لا شيء غير الإسلام يفعل ذلك كله، ومقولة سيدنا عمر- رضي الله عنه- في هذا السياق "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

 

و"الاستقامة" على منهج الحق تدفعنا إلى توجيه النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة؛ بحيث لا نترك الناس في حالة تخدير أو حالة "اللاوعي" فنقيم بذلك كلُّ في محيطه ودائرته حالة إيقاظ عامة، ونحيي موات الغافلين والمخدرين بالقرآن؛ بنوره، وبركته، وفيوضاته التي تتنزل على الجميع برحمات الله وخيره وأمنه وأمانه، ونحن بذلك نتحصن ويتحصن غيرنا بالاستقامة على النهج الرباني القويم من التخدير البدني وغيبوبة أشد فتكًا ودمارًا للأمة؛ إذ إن هذا التخدير المعنوي يعطل الطاقات، ويدفن المواهب، ويقضي على القيم والمثل، ويدمر الكرامة والعزة، ويحيل الفرد إلى "كم" مهمل لا أثر له ولا وزن ولا تأثير موجود أو غير موجود.

 

و"الاستقامة" على الحق تجعل جميع المسلمين كلٌّ بقدر طاقته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويطيع الله ورسوله، ويجاهد في الله حق الجهاد؛ بالنفس والمال، وكل ما يملك من موهبة وطاقة وعلم وعمل وإبداع؛ ليقف الجميع صفًّا منيعًا أمام جيوش الزحف العلماني والتغريبي، والمد الصهيوني العاتي الذي يستهدف زعزعة البنيان وهدم الأركان، وطبيعي أن يتم هذا كله بالوسيلة التي لا عنف فيها ولا إكراه؛ بل بالحكمة والموعظة الحسنة كما قلنا قبل ذلك، وأن يكون دأبنا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ويذكر بعضنا بعضًا؛ فالذكرى تنفع المؤمنين، وهكذا "الوقاية خير من العلاج".

 

وقبل أن نمضي إلى نهاية الكلام عن "الاستقامة" نود أن نشير إلى الآية الكريمة ﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾ (الجن).

 

ويشير صاحب الظلال- رحمه لله- إلى أن هذه اللفتة القرآنية تحتوي على جملة حقائق منها:

1- أن الارتباط بين "استقامة" الأمم والجماعات على الطريق الواصلة إلى الله وبين إغداق الرخاء وأسبابه، ومن أسبابه توافر الماء وكثرته؛ إذ الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة، وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات حتى هذه الأيام؛ سواء بالنسبة للزراعة أو الصناعة، فلا غنى عن الماء في كل الأحوال العمرانية والحضارية والبشرية.

 

2- أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة ﴿.. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء: من الآية 35)، والصبر على الشدة، وكثيرون يصبرون على الشدة ويتماسكون لها لأسباب كثيرة؛ أما الرخاء فينسي ويلهي ويرخي الأعضاء، وينيم عناصر المقاومة في النفس ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان.

 

3- أن الإعراض عن ذكر الله الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء مؤدٍّ إلى عذاب الله.

 

وبعد: فلعلنا نكون قد أوجزنا الحديث عن الاستقامة في حياة المسلم، ودورها في حركة الحياة وواقع المجتمع، والوصول به إلى مرضاة الله عز وجل.

 

ونسأل الله أن نحقق "الاستقامة" في قرارة أنفسنا؛ لتتنزل علينا الملائكة بالأمن والأمان ونبشر بالجنة والرضوان.