بقلم: د. محمد دمان ذبيح
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد.
إن ما يحدث في غزة وصمة عار في جبين الإنسانية بشكل عام، وفي جبين المسلمين بشكل خاص، ولا يمكن أبدا أن تمحوه الذاكرة، أو ينساه التاريخ، أو يسقط بالتقادم.
إنها جراح ليست كالجراح، وإنها دموع ليست كالدموع، وما أصدق ما قاله د. أحمد التويجري:
دم المصلين في المحراب ينهمر *** والمستغيثون لا رجع ولا أثر
والقدس في قيدها (حسناء) قد سلبت *** عيونها في عذاب الصمت تنتظر
سلوا الملايين من أبناء أمتنا *** كم ذبحوا وبأيدي خائن نحروا
سلوا بلادي سلوا لبنان ما فتئت *** دماؤنا في ثراها بعد تستعر
هل قام بليون مهدي لنصرتها *** هل صامت الناس هل أودى بها الضجر؟
فعلا يا أحمد فنحن اليوم أمة المليارين، ولكن لا حدث، ولكن غثاء كغثاء السيل، فهل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزا؟!
إنها هموم، بل سهام توالت، وجمعت أقصى ما يمكن أن يواجهه الإنسان على هذه البسيطة من فقر، وجوع، وتشريد، و... والإنسان قد يعجز أمام واحدة منها، فكيف إذا تجمعت، ورمت بالداء والمنية من كل جانب وزاوية؟!
ولو كان سهما واحدا لاتقيته ***ولكنه سهم وثان وثالث
إنها غزة التي تنزف دما يوميا، وبكل أشكال الجريمة والعنف، حتى غابت معاني الحياة، وغابت معها كل الحروف والكلمات..
وأمام هذه المعاناة التي أتت على الأخضر واليابس، لا يجد الإنسان إلا أن يرفع صوته بهذه الصرخة التي تدوي العالم كله: "افتحوا المعابر فقد بلغت القلوب الحناجر".
أما آن الأوان يا أمة الإسلام أن نتحلى بالجسد الواحد؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى"[1]
أما آن الأوان يا أمة الإسلام أن نتخلق بالبنيان المرصوص؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا "[2]
يا أمة الإسلام إن الرجولة لا تعرف العجز ولا الخذلان، وإن التاريخ لا يرحم كل من باع وخان، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27، 28]، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما خطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا قال: لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له "[3]
ولكن وللأسف الشديد وعلى الرغم من مثل هذه النصوص الرادعة لا زالت الخيانة تتكرر، وتتجدد بين الحين والآخر في ثوب جديد، وفي صورة يرثى لها، وتتعجب منها كل غيرة وحرقة على الدين والأمة، يقول الأستاذ محمد شعبان أيوب: "وصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه أقيمت المآتم…؛ فيا خجْلةَ ملوكِ المسلمين"!! هذا مشهد آخر من تاريخنا.. ليس من موقع الانتصارات ولا مكلَّلا بالشرف والبطولة، بل هو جانب آخر مظلم صوَّره الإمام المؤرخ سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) بتلك الكلمات، حين تحدث عن لحظة تسليم القدس يداً بيد إلى المحتلين الصليبيين، عبر "صفقة" مشبوهة أبرمها معهم سلطان مسلم في كواليس مظلمة، لكنها تنضح بالكثير كنظائرها التي تشترك معها في هاجس واحد عند كل بائع للأوطان: الولع بديمومة السلطة والتمتع بثمراتها!!"[4]
يا أمة الإسلام ليس أمامك الآن إلا أن تفتحي المعابر بمفتاح العز والقرارات الحاسمة، حتى لا تفقدي ماء الوجه بين أبنائك ، ومع الأجيال القادمة ، وابتعدي عن لغة الإنكار والتنديد ، فأنت تعيشين عالما لا مكانة فيه للضعيف، ولا كلمة فيه لليد السفلى، فلا عدل إلا إذا تعادلت القوى، ولا حق إلا إذا أصر عليه صاحبه إصرار الرجال، ودافع عنه دفاع العظماء ، يقول الإمام عبد الحميد بن باديس رحمة الله تعالى عليه :" إنني أعاهدكم على أنّني أقضي بياضي على العربية والإسلام كما قضيتُ سوادي عليهما، وإنّها لواجبات …وإنّني سأقضي حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن وهذا عهدي لكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. محمد دمان ذبيح، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، جامعة محمد العربي بن مهيدي أم البواقي - الجزائر
[1] أخرجه البخاري برقم 6011.
[2] - أخرجه البخاري برقم 6026.
[3] - أخرجه أحمد برقم 12567.
[4] - للمزيد اقرأ : محمد شعبان أيوب ، سلاطين تنصّروا لحفظ عروشهم وآخرون سلّموا القدس مرتين وباعوا الأندلس بالتقسيط.. صفقات "التطبيع" الخاسرة في تاريخ المسلمين ، https://www.aljazeera.net/turath