بقلم: د. محمد القاضي
الصلاة محل المناجاة، ومعدن المصافاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، وتشرق فيها الأنوار، فإن أردت أن تعرف نفسك فكِلْهَا بالصلاة، وزِنْهَا بميزانها، فإن انتهت عن الحظوظ الدنيوية، فاعلم أنك سعيد، وإلا فابكِ على نفسك، إذا جررت رجليك إلى الصلاة جرًّا، فاعلم أنك لم تدرك سر الصلاة فهل رأيت حبيبًا لا يريد لقاء حبيبه؟
قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، فكل صلاة لا تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر لا تُسمَّى صلاة، ولا تعتبر عند الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له".
يا عبد الله: إذا دخلت الصلاة فإنك تناجي ربك، فتقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فاستحضر عظمته في ذهنك، وتُكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك تقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، ولا يقال: أيها الرجل عند العرب إلا لمَن يكون حاضرًا بالمجلس.
فهل بعد كل ذلك تخرج إلى الذنوب، وتعود إليها، بعد هذه النعم التي أنعم الله بها عليك؟.
ومن أراد أن يعرف حقيقته عند الله، وينظر حاله مع ربه، فلينظر إلى صلاته، فهو يؤديها إما بالخشوع والسكون, وإما بالغفلة والعجلة, فإن لم تكن بالوضعين السابقين، فاحثُ التراب على رأسك ندمًا وحسرةً، فإن من جالس صاحب المسك عبق عليه من ريحه، والصلاة مجالسة لله , فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شيء , دلَّ ذلك على مرض فيك, وهو إما كبر، أو عدم أدب، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف: من الآية 146).
ولا ينبغي لمن صلى أن يسرع الخروج من المسجد، بل يذكر الله تعالى عقب صلاته، ويستغفره من تقصيره فيها، فرب صلاة لا تصلح للقبول, فإن استغفرت الله تعالى بعدها قبلت.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى استغفر الله ثلاث مرات. روى أن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله تعالى ثلاثًا, وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
مثال من أدى الصلاة بغير اطمئنان وخشوع قلب وحضور فكر، كمن أهدى للملك مائة صندوق فارغة، فيستحق العقوبة عليها من الملك، ويذكره بها دائمًا؛ لأنه فارغ العقل، ناقص التفكير.
ومن صلاها باطمئنان وحضور قلب، كان كمن أهدى للملك ياقوتة ثمينة تساوي ألف دينار، فإن الملك يفرح بها، ويكافؤه عليها، ويذكره دائمًا بها؛ لأنه ذكي الفؤاد، كامل التفكير، عالي الهمة.
يا هذا.. تختار لنفسك الطيبات من الطعام، بل تنتخب لدابتك العلف الجيد، وتعامل الله بالرديء والمجازفة، وربما قلبت عشرين بطيخة حتى تصلح لك واحدة لتأكلها، ثم تلقيها في بطن مرحاض, وتقعد على الأكل متربعًا شرهًا، وتطول في أكلك وتطمئن، وإذا جئت إلى الصلاة تنقرها نقر الديكة؟, وتحل عليك الوساوس, وتتوارد عليك الخواطر الفاسدة في صلاتك، ثم تخرج منها مسرعًا، وأنت لا تدري أثلاثًا صليت أم أربعًا.
مثال من هذه حالته، كمن نصب نفسه للهدف، وتعرض لطعن الرماح, وقعد للسهام تقصده من كل جانب، أفليس هذا بأحمق؟
وإن أردت أن تعرف كيف تمر على الصراط يوم القيامة، فانظر حالتك في الذهاب للصلاة في المساجد, فيكون جزاء الذي يأتي المسجد قبل الأذان، أن يمر على الصراط كالبرق الخاطف, والذي يأتي في أول الوقت يمر عليه كأجاويد الخيل المسرعة, والذي يأتي بعد الوقت كسلان يمر بطيئًا على الصراط والنار تحرقه.
وها هنا صراط الاستقامة، لا يشاهد بالأبصار، ولكن تشاهده القلوب المستنيرة، والبصائر الطاهرة، قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)، ولم يشر المولى فى كتابه العزيز بلفظ الإشارة (هذا) إلا إلى موجود، فمن أضاءت له الطريق يتبعها، ومن كانت طريقه مظلمة، لم يشهدها، ولم يستطع السير فيها، فيبقى مكانه متحيرًا.
يا عبد الله، احرص أن تكون مع السابقين.. وهم الذين سبقوا في الدنيا بالعبادات، وحافظوا على حضور الجمعة والجماعات، وأنت تترك الجماعة في المسجد وتصلي وحدك منفردًا وتريد أن تنال القبول ويُكتب لك الأجر الكامل مثل غيرك؟
واعلم يا أخي أن ركعتين بالليل خير لك من ألف ركعة بالنهار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بصلاة الليل فإنها دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم". وأنت لا تصلي في الليل ركعتين إلا لتجد ثوابهما في ميزانك يوم الحساب.
وهل تشتري العبد إلا للخدمة، فهل رأيت عبدًا يُشترى ليأكل وينام؟!! وما أنت إلا عبد أوجدك الله لعبادته، وخلقك لطاعته، واشتراك لخدمته, قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (الذاريات)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) (التوبة: من الآية 111).
حُكي عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي أنه كان يحضر عنده فقهاء الإسكندرية فجاءوا مرةً مختبرين له، فتفرَّس فيهم, وقال: يا فقهاء هل صليتم؟, فقالوا: وهل يترك أحدنا الصلاة؟ فقال لهم: قال الله تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22)), فهل أنتم كذلك، إذا مسكم الشر لا تجزعون، وإذا مسكم الخير لا تمنعون؟, قال: فسكتوا جميعًا، فقال لهم الشيخ: ما صليتم هذه الصلاة قط.