الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين..
قال تعالى : ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم﴾ ( التوبة: 36).
ونحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا تتراءى أمامنا صفحات عام مضى ترك لنا واقعًا لم يتغير، وأزمات لم ترحل كما رحلت الأيام، تتراءى فيه أمام أنظارنا معاناة أهلنا في غزة وقد ظلوا يجاهدون أعداءهم ويرابطون على أرضهم ويقفون على ثغورهم لا يغادرونها ولا يبرحونها، ضحوا بكل ما يملكون مالًا وولدًا، وعانوا وما زالوا يعانون أشد المعاناة، ووقعوا تحت حصار جائر فرضه المحتل المجرم وتواطأ فيه ذوو القربى والجار ذي القربى، فما ملك أحدهم شجاعة امتلكها نفر ممن أبوا الإيمان برسالة الإسلام، ولكنهم امتلكوا نخوة الكرام وشهامة الأصلاء؛ فأبت نفوسهم أن يأكلوا ملء بطونهم وبنو هاشم محاصرون في الشِّعب، ورفضوا أن ينعموا بحياتهم بينما أهلوهم ورحمهم ينالون الأذى ويعانون الحصار.
يقول أديب الدعوة في كتابه فقه السيرة: تمخّض حقد المشركين عن عقد معاهدة تعتبر المسلمين ومن يرضى بدينهم؛ أو يعطف عليهم؛ أو يحمي أحدًا منهم، حزبًا واحدًا دون سائر الناس، ثم اتفقوا ألا يبيعوهم، أو يبتاعوا منهم شيئًا، وألا يزوِّجوهم، أو يتزوّجوا منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة علّقوها في جوف الكعبة، توكيدًا لنصوصها.. وضُيّق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقلّ الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه، وسُمع بكاء أطفالهم من وراء الشّعب، وعضَّتهم الأزمات العصيبة؛ حتى رثى لحالهم الخصوم، ومع اكفهرار الجو في وجوههم، فقد تحملوا في ذات الله الويلات، ولم تفتر حدة الوثنيين في الحملة على الإسلام ورجاله، وفي تأليب العرب عليهم من كل فج.
وقد أحزنت تلك الآلام بعضَ ذوي الرحمة من قريش، فكان أحدهم يوقر البعير زادًا، ثم يضربه في اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين، فيخفّف شيئًا مما بهم من إعياء وفاقة.. وها هم أولاء محرجون في أرض تنكرت لهم، واقشعرّت تحت أقدامهم، ولا ريب أنّ قلوبهم امتلأت غيظًا على أولئك المشركين، الذين سخروا من جميع القيم الفاضلة، وما أشبه الليلة بالبارحة!
وبعد سنوات عجاف بدأ المشركون ينقسمون على أنفسهم، ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة، ونقض الصحيفة التي تضمنتها، وأول من أبلى في ذلك بلاء حسنًا هشام بن عمرو؛ فقد ساءته حال المسلمين، ورأى ما هم فيه من عناء؛ فمشى إلى زهير بن أبي أمية؛ وكان شديد الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب،فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟! فقال: فماذا أصنع وإنّما أنا رجل واحد؟! والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها! فقال: قد وجدت رجلًا، قال: ومن هو؟ قال: أنا، قال زهير: ابغنا ثالثًا، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: أرضيت أن يهلك بَطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد ذلك موافق فيه؟! أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إلى مثلها منكم أسرع!! قال: ما أصنع؟ إنّما أنا رجل واحد؟! قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال:ابغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام؛ وقال له نحوًا مما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على هذا؟قال:نعم، قال: من هو؟ قال: أنا وزهير والمطعم، قال:ابغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود، فكلّمه، وذكر له قرابته، قال: وهل على هذا الأمر معين؟ قال:نعم. وسمّى له القوم.
وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة، فقال زهير:أنا أبدؤكم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة!! قال أبو جهل: كذبت، والله لا تُشقّ، قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت! وقال أبو البختري: صدق والله زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك!! وقال هشام بن عمرو نحوًا من هذا، فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل! فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها؛ فوجد الأرَضَة قد أكلتها إلّا كلمة: (باسمك اللهم)، وكانت العرب تفتتح بها كتبها.
أما اليوم فلا يجد أهل غزة من يحمل نخوة هشام بن عمرو، أو مروءة زهير بن أبي أمية، أو شهامة المطعم بن عدي، أو نجدة زمعة بن الأسود، بعد أن تكالبت عليهم قوى الأرض مجتمعة ورموهم رمية رجل واحد، وأحاطوهم من كل حدب وصوب؛ فاللهم هبْ لإخواننا المظلومين في كل مكان من يمزّق صُحف الذل والهوان، ويلهم الأمة سبل الإفاقة والقوة والبيان، فينقضوا بنيان الذل والحصار عنهم.
لا يفل الحديد إلا الحديد
مع إطلالة العام الهجري الجديد تتراءى أمام أعيننا عربدة الكيان الصهيوني المدعوم من قوى الاستكبار العالمي وعدوانه السافر الذي بلغ ذروته على بلدان المنطقة في كل من سوريا وإيران ولبنان واليمن وفلسطين، ويتأكَّد لدينا أنه لن يردعه سوى قوة توقف جرائمه وتتصدى له وتحبط مخططاته، وأنه لن يرده عن المنطقة إلا وحدة الأمة وتماسك بنيانها وامتلاك إرادتها وسلاحها واستقلال قرارها؛ فإنه لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يوقف العدوان سوى التصدي له بكل قوة وبأس.
لقد كانت نداءات جماعة "اﻹخوان المسلمون" دائمة ومستمرة لجيوش المنطقة أن تتفرغ لمهامها وتجدد دماءها وترفع كفاءتها، وتكون على أهبة الاستعداد لمواجهة عدو غاشم لا يألو فينا إلا ولا ذمة، ولا يرده عنا سوى قوة العدة والعتاد مع قوة الإيمان، في ظل عقيدة قتالية تتوجه نحو العدو الحقيقي وتحتمي بقوة شعوبها؛ لتكون لها الردء والمنعة بعد الاعتصام بحبل الله المتين.
إن الطريق الوحيد للحفاظ على كرامة الأمة واستقلال إرادتها وإفشال سعي عدوها لإخضاعها؛ هو الإعداد الشامل لعدو متربص، وبناء جيل يُقبِل على الموت في سبيل الله كما يُقبِل أعداؤه على الحياة، ويأبى الدنية في دينه ووطنه، يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ...﴾ (الأنفال: 60)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داوود -عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن"، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
إن الاختراقات الصهيونية لإرادة دول المنطقة وتماديها في غَيِّها إنما هو نتيجة لافتقاد البوصلة وغياب الرؤية وتعثر الخطى نحو الهدف، وتبعثر الجهود في مواجهة العدو المتربص، كما أنه من ناحية أخرى يأتي نتيجة سياسات التطبيع والانبطاح التي سادت خلال العقود الماضية، وتبنتها أنظمة ظنت أن بإمكانها ترويض هذه العصابة الإجرامية من خلال التسليم الكامل لها والسير في فلكها، والانحياز لها ضد إرادة الشعوب.
إن محاولات الأنظمة، التي سقطت في مستنقع حماية هذا الكيان الغاصب وحجب أي تهديد له، لن تفلح في تحقيق أمن هذا الكيان اللقيط واستمراره، ولن تنجح في تغيير قناعات الشعوب العربية والإسلامية بضرورة اجتثاث هذا الكيان الاستعماري والتخلص من شروره.
وإن صمود الشعب الفلسطيني وثباته على أرضه، واشتداد بأس مقاومته الباسلة، وإسناد الشعوب الإسلامية وأحرار العالم له؛ سيكون سدًّا منيعًا – بحول الله - أمام أطماع هذا الكيان وطغيانه وإيذانًا بزواله واجتثاثه، وستظل فلسطين البوصلة والهدف لجماعة "اﻹخوان المسلمون" والأمة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
الحصاد المر..!
وتستمر الممارسات الكارثية لسلطة الانقلاب التي أوردت مصر المهالك، وأفقدتها دورها الإقليمي والعالمي، حتى تلاشى أثرها وتأثيرها، وضعفت قبضتها وفقدت قدرتها على التحكم في المشهد بعدما فرَّط الانقلاب في معظم أوراق الضغط المصرية ومكامن قوتها.
لقد فرَّطت سلطة الانقلاب في موارد مصر الطبيعية وعلى رأسها الغاز الطبيعي، فبدلًا من تحقيق الاكتفاء الذاتي للبلاد بعد اكتشافات حقل "ظهر" أبرموا عقود تصدير الغاز المصري إلى أوروبا بشروط مجحفة، ثم أتبعوه بفشل في إدارة حقول الغاز بما أضعف الإنتاج؛ لننتقل من طور التصدير إلى الاستيراد، وليتنا استوردنا من دول شقيقة، ولكن كانت المفاجأة إبرام عقود استيراد الغاز مع عدو الأمة الأول الكيان الصهيوني؛ لنضع رقابنا تحت مقصلة أعدائنا، وتقف مصانعنا وشركاتنا تترقب عطايا الاحتلال!
أما عن نهر النيل الذي يمثل المورد المائي الرئيس للمصريين؛ فقد فرَّطت سلطة الانقلاب فيه، وتراخت في ردع من سوَّلت لهم أنفسهم أن يمنعونا حقنا التاريخي في المياه؛ ليظل سد النهضة الأثيوبي مهددًا لأمننا المائي دون أن يجدوا مخرجًا سوى اللجوء إلى تحلية مياه البحر وتنقية مياه الصرف الصحي!
أما سيل الديون الهادر فحدث عنه ولا حرج، حيث بات حجم الديون يفوق قدرة الدولة على السداد، ومازال الإهدار مستمرًّا بسبب الفساد والمشاريع الفاشلة التي استنزفت الموازنة العامة وتسببت في خسائر فادحة؛ فبات التفريط في الأراضي المصرية قطعة تلو الأخرى لصالح الشركات العالمية والقوى الإقليمية التي تتدثَّر بعباءة المتربصين بنا هو الطريق الوحيد الذي وجدوه لسد الفجوة وسداد الديون المتراكمة وفوائدها!
وأمام هذا العجز الشديد عن إدارة شؤون الدولة والتخبُّط والفشل المستمر تراجعت مواقف مصر الكبيرة ومكانتها على المستوى الإقليمي والدولي، بعدما خضعت لشروط الدول المانحة، وأصبح القرار المصري مقيدًا برغبات الغرب والمؤسسات الدولية، وباتت مصر عاجزة عن القيام بدورها الذي يليق بها، بل تحولت إلى عصا غليظة في يد الكيان الصهيوني يضرب بها كل من يعترض على سياساته العنصرية والاستعمارية، والتي كان آخرها تلك المشاهد المؤلمة التي تعرض لها النشطاء القادمون من مختلف دول العالم؛ تضامنًا مع أهل غزة من تنكيل وتشويه وإيذاء نفسي وبدني، بينما يستقبل مطار شرم الشيخ وفود المستوطنين الصهاينة الفارين من الصواريخ الإيرانية بكل أريحية وترحاب!!
إن حماية هذه الأمة من خطر وجودي محدق وداهم؛ لا تؤمِّنها الشعارات الخاوية التي لا رصيد لها ولا يشتريها الكذب على الشعوب ومخادعتها، لكنها تفرض على كل مكونات المجتمع، أفرادًا وجماعات، السعي الحثيث والعمل الجاد نحو بعثٍ جديد نمتلك فيه إرادتنا ونزيح الفاسدين عن كاهلنا؛ لنبدأ البناء ونحصِّن بيتنا ووطننا من الداخل.
إننا ومع قدوم عام هجري جديد، ورغم كل الصعاب التي تمر بها الأمة على كافة المستويات؛ لن ينقطع رجاؤنا بحول الله وقوته في غدٍ مشرقٍ ومستقبلٍ واعد، بعد أن بلغ عُلُوُّ الباطل مبلغه ووصل إلى منتهاه، عسى الله أن يأذن بفرج قريب ونصر عزيز ﴿وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
واللهُ أكبرُ وللهِ الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
الأربعاء 29 ذو الحجة 1446 هجرية - الموافق 25 يونيو 2025م