https://ikhwanonline.com/article/266140
السبت ٢٤ محرّم ١٤٤٧ هـ - 19 يوليو 2025 م - الساعة 09:45 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
زاد الداعية

الهجرة بين الآلام والآمال

الهجرة بين الآلام والآمال
الأربعاء 25 يونيو 2025 02:30 م
بقلم: د. أحمد عبد الخالق

لم تكن الهجرة فرارًا من ميدان المعركة ولم تكن هروبًا من المواجهة مع الباطل ولكنها كانت انطلاقة للدعوة من مرحلة إلى مرحلة أخرى. من مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة، ومن مرحلة الألم إلى مرحلة الأمل، ومن مرحلة العجز إلى مرحلة التمكين. ولقد كانت الهجرة بداية لقيام دولة الإسلام التي أصبح لها قيادة ولها جيش، وصارت لها شوكة وغلبة، وأمسى العالم يهاب تلك الدولة الناشئة الجديدة. ولقد كانت الهجرة بين مرحلتين من مراحل الدعوة المباركة.

 

المرحلة الأولي: مرحلة الآلام والاضطهاد والتعذيب:

وهي المرحلة المكية التي عاشها المسلمون، يتربون فيها على العقيدة الصحيحة. ويتحلون بالصبر، ويستعذبون الآلام، في سبيل الله تعالى، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل، ولقد نال التعذيب والأذى كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفاوت بينهم، وكان على رأس المعذبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يتأسى به أصحابه المعذبون.

 

لقد قدمت دعوة الإسلام المباركة شهداء في سبيل الله تعالى، وقضت حكمة الله تعالى، أن يكون أول شهيد في الإسلام امرأة، استمسكت بدينها وعقيدتها ولم تتخل عنها، وكرهت أن تدنس لسانها بكلمة الكفر بعد أن طهره الله منه، ولقيت ربها شهيدة إثر طعنة دنيئة من عدو لله أبي جهل، أصابتها في موضع عفتها، وفارقت هذه الحياة وهي تشكو إلى ربها ظلم الطغاة، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، وكأن الله تعالى، أراد أن يكون أول شهيد في الإسلام امرأة، حتى يستمسك الرجال بدينهم، ويثبتون على مبدئهم، ويقدمون أغلى ما يملكون في سبيل نصرة الدين، والتمكين له في الأرض، وحتى يكون فخرًا لكل امرأة مسلمة تسلك سبيل سمية في الاستمساك بدينها وعقيدتها والدعوة إلى الله بحكمة وروية والثبات على الحق.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يمر على المعذبين من أمثال سمية وياسر وعمار، ولا يملك، إلا أن يبشرهم بالجنة نظير صبرهم وثباتهم، فيقول "صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة" وكانت تلك البشرى ترفع من معنوياتهم وتعطيهم دفعة إلى الأمام وتجعلهم يقولون: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ (طه: من الآية 84).

 

لقد عاش المسلمون في مكة قبل الهجرة الآلام، حتى أصقلتهم تلك المحن وصنعت منهم رجالاً أقوياء ذوي همم عالية ونفوس أبية قوية، فلقد عذب خباب رضي الله عنه، وذلك بأن أوقدوا النار عليه، فما اطفأها إلا ودك ظهره. ولقد ضرِب أبو بكر ضربًا شديدًا، حتى وصل إلى درجة أنه لا يعرَف وجهه من أنفه. ولما أسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذه عمه الحكم بن أبي العاص، فأوثقه رباطًا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلك أبدًا، حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال له عثمان: والله لا ادعه أبدًا، ولا أفارقه. فلما رأى الحكم صلابته في دينه، تركه. وكان عم الزبير بن العوام يعلقه في حصير ويدخن عليه النار، وهو يقول: ارجع إلى الكفر. فيقول الزبير:  لا أكفر. وكان المشركون يعذبون بلالاً في رمضاء مكة وقت الظهيرة، ويطوفون به شوارع مكة، وما كان يقول: إلا أحد، أحد، فرد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

 

وكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب بهم، إجبارًا لهم على ترك دينهم. ومن ذلك: أنهم كانوا يضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، وحتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول: نعم افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.

 

وعاش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الآلام قبل الهجرة، وها هو ذا يقول عن نفسه: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخِفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولبلال رضي الله عنه ما يأكله ذو كبد، إلا ما يواري إبط بلال".

 

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هدفًا لمشركي قريش وكان كل همهم وتفكيرهم كيف يتخلصون من هذا الرجل، الذي أفسد عليهم دينهم، وسحب البساط من تحت أقدامهم. فاتخذوا جميع الوسائل، التي بها يجعلونه يتخلى عن الدعوة، التي جاء بها، ففرقت بين الوالد والولد.

 

فأخذوه بالترهيب تارة، وبالترغيب تارة، فقاموا بتعذيبه وإيذائه بإلقاء القاذورات على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وإلقاء التراب على رأسه. فلم ينته، ولم يتخل عن دعوته. ومع كثرة التعذيب له ولأصحابه، فإن الناس، قد ازدادوا إقبالاً عليه. فلما رأى المشركون هذا الإقبال، قاموا بالمفاوضات الممزوجة بالعطاءات والمنح، وذلك بالعرض عليه مباشرة، أو عن طريق عمه، عرضوا عليه المال إن كان يريد مالاً. وعرضوا عليه السيادة والملك، إن كان يريد ملكًا ورئاسةً، وعرضوا عليه أن يعالجوه، فلعله قد أصابه جنون، أو مسه جان، والنبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم في كل مرة بما يقنعهم، وفي المرة التي كانت عن طريق عمه قال لعمه: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهرَه الله، أو أهلك دونه".

 

ولما لم تفلح محاولاتهم، ولم تنجح مساعيهم، قاموا بتضعيف الآلام على النبي وأصحابه، فضيقوا عليهم كل المسالك، فحاربوهم في أرزاقهم، وحاصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، ولا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، حتى أكل الصحابة أوراق الشجر، ومع ذلك كله فقد خرجوا من المحنة وهم أصلب عودًا، وأقوى عزيمة.

 

ولما لم تفلح محاولاتهم تلك فقد قرروا القضاء عليه، وقاموا بمحاولات عِدة، منها: ما قام به عقبة بن أبي معيط من محاولة خنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رده عن محاولته الخبيثة، إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قائلاً: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (غافر: من الآية 28)، ومنها: ما تم الاتفاق عليه بين مشركي قريش من أن يأتوا من كل قبيلة بشاب قوي فتي، ويجتمعون حول بيته ليضربوه ضربة رجل واحد، وبذلك يتفرق دمه بين القبائل، ويرضى ذووه بالدية، وبذلك تتخلص قريش وحلفاؤها من أعتي قوة- ومن أقوى عدو، ألا وهو الإسلام ورسول الإسلام والمسلمين، لكن الله لن يضيع دينه، ولن يخذل أولياءه:  ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)﴾ (الصف).

 

وخابت مساعيهم، ورد الله كيدهم في نحورهم وأخزاهم، ونجى رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

وانتهت مرحلة الآلام بالهجرة الشريفة، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الدعوة الإسلامية، وليبدأ المسلمون بتأسيس دولة لهم، وليكون لهم كيان مستقل، وشخصية مستقلة مميزة. فلقد عاشوا مرحلة الآلام صابرين محتسبين، ولم يؤذن لهم في الدفاع عن أنفسهم، وظلوا ملتزمين، حتى آن الأوان، وجاءتهم الأيام، التي يجنون فيها ثمار صبرهم ويتحول الرعاة إلى قادة، ويتحول العبيد إلى سادة، ويأخذ المظلوم حقه من الظالم، وتعلوا كلمة الله تعالى، ويمكن للإسلام، وتفتح البلاد، ويسعد العباد بالإسلام والأمن والأمان.

 

المرحلة الثانية:  مرحلة الآمال:

على الرغم من كثرة الآلام، التي لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلا أن الآمال كانت بمثابة البلسم، الذي أزال الآلام وأحيا فيهم روح النصر والفتح والتمكين.

 

إن أول ما يبدو من الآمال في الهجرة هو نجاح الهجرة جملة، من حيث التخطيط والأخذ بالأسباب، ومن حيث العناية التي رافعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل تحركاته، وذلك واضح جلي في الأمور التالية:

أ‌-  خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بين الجمع الهائل، الذي يلتف ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يروه، بل والأغرب من ذلك ما وضع على رؤوسهم من التراب وهم لم يشعروا به.

 

إن النجاح في أول خطوة من خطوات العمل، ليعبث في النفس بالأمل، الذي يدفع صاحبه إلى السير، دون أن يفكر في التراجع، أو دون أن يصاب بضعف في الهمة وتثبيط في العزيمة.

 

ب‌- رعاية الله لنبيه: حفظه له ولصاحبه وهما في الغار، وذلك أن المشركين، كانوا قد وصلوا إلى الغار حتى قال أبو بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن أن الله معنا" قال تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾ (التوبة).

 

فمعية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الأمل المتجدد، الذي يجعل صاحبه يطمئن على دعوته ورسالته، وأن دينه سوف ينتشر ويملأ الدنيا نوره وعدله. وأن البشرية سوف تسعد به ما أخذت به واستمسكت. وكما يقولون:  من علامة الإذن التيسير، فما دام التيسير حليفك، فاعلم بأنك تتقدم إلى الأمام ويتجدد ذلك الأمل.

 

جـ- حين لحق سراقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ساخت قوائم فرسه في الأرض أكثر من مرة، طلب سراقة كتاب أمان من الرسول صلى الله عليه وسلم، فأَمر، فكتب، ثم قال له "كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى؟"

 

إن هذه البشرى وحدها كفيلة بأن تمسح كل الآلام التي سبقت الهجرة، والعجب أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وهو مطارد ملاحق، لكن الأمل لا يفارقه، فلسوف يفتح الإسلامُ البلادَ ويُخضِع له العبادَ، ولسوف تدين تلك الممالك بدين الحق/ وتخضع لحكم الله وحده، فلا كسرى ولا قيصر، ولا تثليث ولا مجوسية، ولكنْ توحيد لله تعالى وعبوديةَ.

 

ولقد جاء اليوم الذي تحقق فيه هذا الأمل، حين جيء بتاج كسرى وجواهره وسواريه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتذكر ذلك الوعد الذي أعطاه رسول الله لسراقة. فنادى عمرُ: أين سراقة بن مالك؟ فجاء فألبسه عمر سواري كسرى، قائلاً: الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز وألبسها سراقة بن مالك الأعرابي وسبحان من له العز السرمدي والخزائن، التي لا تنفد، والملك الذي لا يزول.

 

وظلت الآمال تتجدد مع كل يوم، وذلك بوجود كيان للمسلمين بعد نجاح الهجرة، وبوجود هُوية لتلك الدولة الجديدة. وتتجدد الآمال أيضًا مع كل غزوة، أو سرية، يَكتب الله منها النصر للمسلمين. وتتجدد الآمال بفتح مكة المكرمة وتطهيرها من الأصنام، وخضوع أهل مكة جميعًا للإسلام. وتتجدد الآمال بالأفواج، التي بدأت تتجه نحو القائد الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمة القلب والنفس لله تعالى معلنة دخولها في هذا الدين القويم. وتتجدد الآمال بدخول الجزيرة العربية في الإسلام، وذلك كما قال القران الكريم: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾ (النصر).

 

إن الأمل لا يفارق المسلم أبدًا، ولولاه ما قامت الحياة. لولا الأمل في النصر ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدوًّا، ولا تحرك لهم جيش. ولولا الأمل في أن الإسلام سوف ينتشر ويسود، ما قام أحد من المسلمين بدعوة ظالم، والوقوف بوجه المعتدين، وقام المسلمون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

وهكذا ينبغي لنا أن نعرف أنه ما من مرحلة من الآلام تمر، إلا ولا بد وأن تليها مرحلة الآمال، لتمسح الآلام وتزيل آثارها. وفرحة النصر دائمًا تنسي الإنسان آلام الجراح ومرارة الجوع والعطش وطول السهر.

 

إن أملنا في الله لكبير أن يحول هذه المحن إلى منح، وأن يحول خوفنا وفزعنا إلى أمن واستقرار، وأن يجعلنا نتبوأ المكانة اللائقة بأمة البشير النذير، وأن يجعل عامنا هذا عامًا سعيدًا مليئًا بالخيرات والفتوحات والفيوضات إنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. اللهم إنا ندعوك فاستجب دعاءنا. ونرجوك فلا تخيب رجاءنا. اللهم إنا نستعين بك فأعنا. ونستجير بك فأجرنا. ونتوكل عليك فلا تكلنا إلى أنفسنا، أو إلى أحد من خلقك طرفة عين، أو أقل من ذلك. والله أكبر ولو كره الكافرون.