- د. محمد بديع: كان سببًا في خروج التكفير من المحلة

- عبد الخالق الشريف: العلم والتواضع أهم صفاته

- د. العريان: كان يؤثر العمل على الكلام

 

كتبت- أسماء شحاتة

عالم من علماء الحديث.. وإن توخينا بعض الدقة لوجدناه أحد أهم فقهاء هذا العلم الذي يحتاج عقلاً واعيًا وفكرًا مستنيرًا وحُبًّا واجتهادًا.. إنه الشيخ السيد نوح- رحمه الله- الذي يعد من أبرز مَن وضعوا نصب أعينهم علم الحديث لا من الناحية العلمية فقط، وإنما من الناحية الإنسانية كذلك.. فدرس واجتهد وطبَّق ما درسه في حياته الواقعية، فلمَّا ترك الدنيا ورحل ترك آثارًا يشهد لها كل مَن عايشوه.. فارسنا الذي ترجَّل عن جواده تخرَّج في كلية أصول الدين من جامعة الأزهر، وحصل على الماجستير ثم الدكتوراه، وكان عضو مجلة الشريعة بكلية الشريعة جامعة الكويت لمدة سنتين ورئيس برنامج الحديث وعلومه والدراسات العليا بجامعة الكويت، وله نحو 16 بحثًا منشورًا ومحكمًا، كما كان للشيخ السيد نوح- رحمه الله- عددٌ من المؤلفات من أهمها (توجيهات نبوية، آفات على الطريق، شفا الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين، الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث، التابعون وجهودهم في خدمة الحديث، منهج الرسول في غرس روح الجهاد في نفوس أصحابه، شخصية المسلم بين الفردية والجماعية، الدعوة الفردية في ضوء المنهج الإسلامي)، وبين تواضعٍ وشغفٍ بالعلم وحب لله ورسوله ندور في فلك هذا العالم الجليل الذي وافته المنية قبل يومين، باحثين عن آثاره ومناقبه التي خلَّفها وراءه فبكته القلوب قبل العيون.

 

يقول عنه الشيخ عبد الخالق الشريف: 
 الصورة غير متاحة

الشيخ عبد الخالق الشريف

إن الشيخ السيد نوح- رحمه الله- من أعلام علم الحديث، وجاب الكثير من البلدان، وتمَّت استضافته في العديد من المؤتمرات، وله مؤلفات كثيرة، وفي حقيقة الأمر لم نطلب يومًا من الأيام هذا الرجل في مؤتمرٍ أو ندوةٍ أو سفرٍ إلا وقَبِلَ دعوتنا بصدرٍ رحبٍ مهما كانت درجة انشغاله أو مرضه، وقد كان يجاهد نفسه ويعمل طول النهار تقريبًا إلى ما بعد منتصف الليل لا يكل ولا يمل، وكان فقيهًا في علم الحديث، ويدرك المصطلح إدراكًا عميقًا ويُحسن دقائق الفهم من كلام النبي الكريم.

 

وكان- رحمه الله- شديد التوكل على الله فأذكر أن شقته تمت سرقتها في وضح النهار، ولما عاد إليها وجدها خاويةً على عروشها فصبر واحتسب، ولم نسمع شيئًا عن جزعٍ أو عدم رضا، وقال: "هذا ما رزقنا الله وابتلانا"، وصبر واحتسب أمره لله.

 

ويضيف كان الشيخ السيد نوح- رحمه الله- رجلاً قوي الذاكرة بصورةٍ كبيرةٍ، فقد قابل زوج ابنتي مرةً واحدةً وقابله بعدها بـ3 سنوات لم يره فيها قط فتذكره وسأله عني وعن الأسرة، وكان رجلاً شديدَ التواضع حتى في العلم فقد كان يستمع لمَن هو أصغر منه إذا كان يتكلم وكأنه يستمع لعالمٍ أو أستاذٍ فينصت لكل كلمةٍ وكل حرفٍ وكل جملةٍ، وإذا وجد خطأً في كلام التلميذ أشار له به بعدها بفترةٍ حتى لا يجرحه أو يصده عن طلب العلم لأن هذه الأشياء تؤثر في التلاميذ، وكان كريمًا إلى حدٍّ كبيرٍ وبشوش وجهه باسمٌ دائمًا حتى في أشد اللحظات سوءًا، ومهما كانت درجة إرهاقه تجده باسمًا مع أي إنسان يتحدث معه، وكان يصرف الكثير من وقته لحل المشاكل الاجتماعية، فقد كان يؤمن أن الأسرة إذا انصلح حالها انصلح حال المجتمع بأسره.

 

فقيه الحديث

ويضيف رفيق عمره وطفولته الدكتور محمد بديع قائلاً:

في الحقيقة الشيخ السيد نوح- عليه رحمة الله- لم يكن عالمًا من علماء الحديث فقط، ولكنه كان من فقهاء علم الحديث لأنه كان يرى أن وراء الحديث منهاج تربية كان حريصًا أن يستنبطه من الحديث ويستفيد به وينقله إلى الأمة الإسلامية، وكان من أبرز ما يُميزه هو تواضع العلماء، وقد كان صورةً نادرةً من استشعار العلم في قلبه وعقله، وكان يعتبر علمه أمانةً كانت تجعل رأسه مطأطأةً لله سبحانه وتعالى دائمًا حريصًا على أن ينقله لمَن حوله بسلوكه وتصرفاته.

 

وكان يتعامل مع الحديث تعامل مَن يريد أن يتتلمذ على يديه لا أن يكون أستاذًا له حتى وهو أستاذ في علم الحديث إلا أنه كان يتتلمذ على يد حديث الرسول الكريم، ومما لا يُعرف عنه- رحمه الله- أنه كان كثير أعمال البر والخير في الخفاء التي لم يكن هناك مَن يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى؛ حرصًا منه على أن تكون خالصةً لوجهه الكريم.

 

ومن المواقف التي لا تُنسى له- رحمه الله- موقفه من التكفير والذي كان قد بدأ ينتشر في المحلة؛ حيث مسقط رأسه فوقف في وجهه وقفةَ العالم العامل المجاهد لا فقط مَن يُقدِّم الحديث أو الدليل، ولكنه استشعر خطورةَ الفتنة فشغلته حتى درأها في مهدها رغم ما عاناه من مشقةٍ في التضييق عليه من أجهزة الأمن، إلا أنَّ وقفته تلك التي يشهد لها الجميع نجَّى الله بها المحلة من فتنةٍ كانت قد بدأت تستشري في هذه البلدة، وكانت له جولات وصولات في العلم- رحمه الله- ولكنه كان يُؤلف القلوب قبل أن يؤلف الكتب، فنسأل الله أن يتقبَّله منه ويجعله في ميزان حسناته.
 
 
 الصورة غير متاحة

د. محمد بديع

  ويضيف د. بديع: مررت معه بمواقف كثيرة لا أنساها ما حييت فقد كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتي، وكان يعلمني الحديث ويشعرني أنه مَن يتتلمذ على يدي لا أنا، وأذكر أنه كان يناقش بعض أهل التنطع في الإسلام وكان موقفه الحقيقة موقف المشفق عليهم فكانوا يتطاولون عليه، وكان يحلم عليهم وكان يمتص الإساءة إلى شخصه ثم يقرع جهل الجاهلين بحجةِ العلماء ولينهم وعلمهم، واعتدل بعضهم بالفعل إلى الطرق السليم بفضل الله.

 

ولا أنسى أبدًا أنه كان بسيطًا في بيته، ولا يحب التكلف، وعندما كان يُطلَب في أي وقتٍ من الأوقات لم يكن يتأخر مهما كانت ظروفه، وهي صفات أصبحت نادرةً بين المسلمين، وكان يسعى في مصالح الناس، واضعًا أمام عينيه حديث الرسول "السعي في مصلحة مسلمٍ من المسلمين ساعة في النهار كان كمَن اعتكف في مسجد الرسول شهرًا"، فقد كان- رحمه الله- يترجم الحديث إلى واقعٍ عملي يعيش فيه ويُريه للآخرين لعلهم يعيشون فيه، فحال رجلٍ في ألف رجلٍ خيرٌ من مقال ألف رجل لرجل، واسأل جميع المسلمين بالدعاء له، ونسأل الله أن يُجزيه عنَّا كل الخير وأن يرحمه رحمةً واسعةً.

 

عامل للدين

وبتأثرٍ شديدٍ يتحدث مسعود السبحي عن الشيخ السيد نوح قائلاً:

لقد كان رجلاً يقول ما يفعل، فكان ربانيًّا يقوم الليل حتى الفجر ثم يُصليه ويجلس ما يقارب الساعتين بعد الصلاة ليقرأ القرآن، ويراجع الأحاديث، فكان يُخصص الساعتين في المراجعة قبل ذهابه إلى مقرِّه في الجامعة، وكان مدير مكتب الانتساب الموجه برأس الخيمة، والرجل حسبه- والله حسيبه- من العاملين المخلصين لهذا الدين، وكان يضحي كثيرًا في الحقيقة وما دُعي إلى خيرٍ إلا وأجاب، وقد عشتُ معه ما يقرب من العشر سنوات إلاَّ أنني أشعر أن الكلمات قليلة في حقِّه، وأنها لا تكفي للحديث عن علمه وشخصه ومؤلفاته، وأخشى أن تخونني الكلمات فلا أوفيه حقه.

 

ويضيف: أذكر أنه في مرضه الأخير كان كبده متفجرًا، ومع ذلك أصرَّ على زيارة الشيخ عبد الله الخطيب في بيته وزيارة الدكتور فتحي لاشين وغيرهما، وهو في أشد حالات المرض ومع ذلك لم يتأخر في الذهاب إليهم بنفسه.

 

وقد كان الشيخ السيد نوح- عليه رحمة الله- من الناس الذين إذا لجأ إليهم الإنسان قاموا معه دون أن يردهم أو يصدهم مهما كانت درجة مشاغله أو إرهاقه، ومواقفي معه كانت كثيرة وكلها مؤثرة فحتى أقول عن موقفٍ سأنسى آخر، والشيخ لا يُنسى حقيقةً رحمه الله رحمة واسعة.

 

العالم الحليم
 
 الصورة غير متاحة

د. عصام العريان

ويحكي لنا الدكتور عصام العريان عنه فيقول :

عرفتُ الشيخ السيد نوح- رحمه الله- في منتصف السبعينيات، وكان لا زال خريجًا حديثًا، وعرفتُ فيه التواضع الشديد، وحسن الخُلق والمعشر، وكان دائمًا يُؤثر العمل على الكلام؛ فقد كان صامتًا لكنه كان يتميز بالقدرة على البحث والتدقيق؛ فكانت كتاباته مدققة جدًّا وكانت تهتم بالجوانب السلوكية والعملية أكثر من الجوانب النظرية وأخلاقه كانت أخلاقًا عالية جدًا، وأعتقد أني لم أره يومًا غاضبًا أو مُخاصمًا لأحدٍ، أو حادًّا أو منفعلاً أو مرتفع الصوت، وقد سافر إلى الإمارات بعد معرفتنا بفترة، ومنها إلى الكويت وعاش هناك فترات طويلة واستطاع أن يكسب مشاعر الجميع، ولم يكن يتأخر على إغاثة أي ملهوفٍ دعاه، وكان رجلاً قدوةً غالب التأثير فيمن حوله بقدوته وليس فقط بعلمه، فكم من عالمٍ يحفظ الأحاديث ويحمل الدكتوراه ولا يؤثر في الآخرين، في حين كان هو من الناحية السلوكية  قدوة حسنة، ومن الناحية العلمية يُعطي العلم بسلاسةٍ ودون تقعر ودون أن يُصعّب المسائل على مَن حوله، فكما حكى لي بعض طلابه ممن نقلوا عنه أنه كان ذو عذوبه في طرق تعليمه للحديث ومصطلح الحديث.

 

ويضيف: من أصعب المواقف التي مررت بها معه- رحمه الله- حينما نزل إلى مصر ودخل إلى دار الفؤاد، وذهبت إلى زيارته فكان صامتًا مريضًا رهن الفراش، وكان لم يصل مصر من فترةٍ طويلةٍ، ورغم مرضه وألمه لم أره إلاَّ باشًّا مُبتسمًا راضيًّا بقضاء الله، ولم يبدو عليه أي تأثر بصعوبة العملية أو تأثيرها.