اعتقالات ومحاكمات، جلسات وزيارات متكررة للسجون، دقات قلوب متسارعة، تحنُّ لمعرفة مصير أقرب الناس إليها، وأيدٍ مشتاقة، تتضرَّع لبارئها بالدعاء؛ علَّه يرد إليها أحبَّ مَن فقدت، تلك هي الألوان التي رسمت ملامحَ قاسيةً لحياة صغار أبناء الإخوان المعتقلين، تحت طائلة المحاكمات العسكرية، والتي ما زالت تدور أحداثُها في دور القضاء بين جلسة وأخرى؛ انتظارًا لقرار قد يُعيد البسمة إلى الوجوه، أو يصبغ حياةَ هؤلاء الصغار وذويهم بلون قاتم، ملبِّدًا سماء حياتهم بغيوم كثيفة، لا يدري غيرُ الله متى تنقشع.

 

كلمات بسيطة اختلطت بمشاعر عميقة، خرجت من شِفاه صغار أبناء الإخوان المعتقلين، إلا أنها- وعلى الرغم من بساطتها- تركت أثرًا عميقًا، وغرست معانيَ قد لا تتناسب مع أعمارهم الصغيرة وقسمات وجوههم البريئة.

 

التوأم (ولاء وإيمان- 9 سنوات) طفلتان للمهندس أحمد أشرف أحد المحالين للعسكرية، ترويان أحداث هذه الأزمة التي قاربت العام، فتقولان: كنا في المدرسة يوم اعتقال والدنا، وبعد عودتنا سألنا والدتنا عنه فأجابت: بابا مسافر، لم نستطع يومها النوم، وبعد أن علمنا باعتقاله ذهبنا لزيارته، وكنا نذهب إليه كثيرًا في الإجازة، وبدخول الدراسة أصبحنا نراه مرةً واحدةً في الأسبوع، ونشعر بفرحة شديدة ونحن في طريقنا لزيارته.

 

وتتحدث الطفلتان عن أول زيارة لوالدهما، فتقولان: في البداية وجدنا بابًا حديديًّا ندخل منه، وبعد أن يأخذ الضابط البطاقة من والدتنا نجلس قليلاً انتظارًا لـ"الطفطف"؛ حيث يُقلُّنا إلى مكان وجود والدنا، بعدها ننتظر مجيئه لحوالي نصف الساعة.

 

وتتذكَّر الطفلتان أولى لحظات ذلك اللقاء؛ حيث اندفعتا إلى والدهما لتحتضناه في قوة وتقبِّلا يديه، وتكمل الطفلتان حديثهما قائلتين: نجلس مع والدنا في غرفة متوسطة الحجم، بجدارها فتحة لإدخال الضوء وبها مناضد صغيرة، يحكي لنا والدُنا عن حياته داخل المعتقل؛ حيث يقرأ القرآن ويتريَّض مع إخوانه.

 

لأنها صغيرة!!

وبسؤالهما عن ردود أفعال زملائهما في المدرسة تقولان: بعض زملائنا يعلم والآخر لا، وتحكي إيمان عن أحد المواقف التي تعرَّضت لها قائلةً: كنت ذات يوم في حصة الاحتياطي، وسألتني إحدى زميلاتي: "إنتي من الإخوان؟!" فأجبتُها: نعم، فسألتني أخرى: "يعني إيه إخوان؟!" فأجبتها: "مش ها أقولك"، وهدَّدتني بإخبار معلمتي إن لم أفعل، وبالفعل ذهبَتْ وقالت للمعلمة: "يا ميس دي بتتكلم في حاجات سياسية!"، فأجابتها المعلمة: "أخبريها ألا تتحدث في هذه الأمور؛ لأنها صغيرة"!!.

 

وعن حياتهما بعد الاعتقال تقول إيمان: كان والدنا يستذكر معنا مادة الحساب، أما ولاء فدمعت عيناها قائلةً: "بابا كان بيودِّينا النادي"، وتضيف الطفلتان: كان والدنا يذهب لإحضار نتيجة آخر العام لنا ويصطحبنا إلى الملاهي ويبتاع الكثير من الألعاب، أما هذا العام فإخوتي هم الذين قاموا بالتنزُّه معنا.

 

وبسؤالهما عن رأيهما فيما فعله والدهما تقولان: "بابا على حق، وهُمَّا خدوه علشان مش عاوزينه يصلي مع أصحابه"!!.

 

وتكمل إيمان قائلةً: "لو كنت شُفت الضابط اللي أخده كنت قلت له: إنت عاوز بابا ليه؟! إنت عندك دليل؟! وهاقفل الباب في وشه، ولو رَنّ الجرس مش هافتح الباب!".

 

وفي نهاية حديثهما وجَّهت الطفلتان رسالةً لوالدهما؛ حيث قالت إيمان: اصبر صبرًا جميلاً، إن بعد العسر يسرًا.. أما ولاء فقالت- والعبرات تخنق كلماتها-: "يا رب يخرجك بالسلامة، إنت والإخوان المسلمين"!!.

 

"العيد وحش من غير بابا"!!

 الصورة غير متاحة

سارة محمد حافظ

وتتشابه ظروف اعتقال والد الطفلتين مع والد الطفلة سارة محمد حافظ (9 سنوات)؛ حيث تحكي قائلةً: اعتقال والدي حصل وأنا نائمة، أيقظتني أمي وذهبْتُ للمدرسة، وبعد عودتي وجدت أمي تبكي فسألتها: ماما، فين بابا؟! فقالت: في الشغل، وجدت المكتبة مبعثرة، ووجدت "ديسك" الكمبيوتر في غير مكانه، بعد ذلك جاء أهل أمي إلى البيت، ولم أعلم باعتقال أبي إلا بعد ذهابي إليه في النيابة! فقلت له: "بابا، ما تيجي معانا، إنت هاتيجي إمتى"؟! فرد قائلاً: مش عارف. ليلتها جلستُ أفكر: لِمَ أخذوا أبي؟! ماذا سيحدث لو تركوه ينشر الإسلام؟!.

 

وتكمل سارة حديثها قائلةً: ذهبتُ لزيارته أول مرة، ففوجئت بالعساكر وقد ظهر عليهم التكبُّر، كانوا يرغبون في أن يرجع أبي هو وأصحابه عن كلامهم، وكانوا يرفضون دخول الـMP3 معنا إليه.

 

وتروي سارة ما حدث في حياتها من تغيُّر وأثر اعتقال والدها فتقول: "كان أبي يذهب معي إلى النادي ويذاكر معي مادة العلوم، الآن تذاكر أمي معي، لكنها لم تسدَّ الفراغ الذي تركه أبي، فأنا أريده أن يعود، كان يحضر لي النتيجة كل عام، الآن يحضرها لي السائق!! وحينما علم أبي بنجاحي طلب من أمي إحضار هدية لي وأحضر لي "تورتة" النجاح، وتناولتها معه في المعتقل، وقال لي: نتيجتك كويسة".

 

وبسؤالها: هل علم زملاؤها باعتقال والدها أم لا؟ أجابت: "أنا قلت لهم إن بابا معتقل علشان بينشر الإسلام"!!، وعن يوم العيد تقول: "كان وحش قوي من غير بابا، لقد أعطاني العيدية في المزرعة- تقصد المعتقل- وأشعر بفرحة قوية واستعجال شديد حينما أذهب لزيارته".

 

وعن رأيها في أبيها تقول سارة: أبي على الطريق الصحيح؛ لأنه ينشر الإسلام، وتضيف: "لو كنتُ موجودة يوم ما اعتقلوه ما كنتش هاعمل حاجة علشان الضابط أكبر مني"!.

 

وبعثت سارة برسالتين: الأولى لِمَن يهاجمون والدها، قائلةً: أنتم لا تفهمون الأمر بصورة صحيحة، فأبي رجل طيب وينشر دعوة الإسلام، أما الثانية فبعثت بها إلى أبيها قائلةً: "اصبر يا بابا إن شاء الله هاتخرج وإحنا بندعي لك".

 

المصاحف على الأرض!!

 الصورة غير متاحة

معاذ أحمد شوشة

"عاوزين تاخدوا الشقة كلها خدوها، اعملوا اللي إنتم عاوزينه، اضربونا، إحنا ناويين نصلح البلد وربنا هايدِّينا أجرنا"؛ بهذه الكلمات القوية ختم معاذ أحمد شوشة (11 سنة)- الابن الأصغر للمهندس أحمد شوشة- حديثه الذي بدأه بسرد تلك اللحظات القاسية التي عاشها منذ اعتقال أبيه، قائلاً: كنت مستغرقًا في نومي فلم أشعر بشيء استعدادًا لامتحاني في اليوم التالي، وبعد استيقاظي ذهبت لرؤية أبي كي يراجع معي مادة الامتحان، فمنعني إخوتي وأخبروني أنه نائم في ساعة متأخرة ولا نريد إزعاجه!.

 

ذهبتُ إلى الطابق العلوي من منزلنا لإحضار أدواتي الدراسية فوجدت المصاحف ملقاةً على الأرض! وعندما سألت أمي أخبرتني أنهم يرتِّبون المنزل، نزل أخي عبد الرحمن معي- ولأول مرة- ليقوم بتوصيلي، وأثناء مروري على مكتب أبي بالطابق الأرضي وجدت شرطيًّا على الباب وقد تم تشميعه، فأخبرني أخي بأن هناك بعض المشكلات البسيطة في المكتب وسرعان ما تنتهي، في أثناء طريقي للمدرسة كان ذهني مشغولاً بكل تلك الأحداث المُريبة حتى أني نسيت مراجعة مادة الامتحان.

 

يكمل معاذ قائلاً: عدت إلى البيت فوجدت حركةً غير طبيعية فيه.. أعداد كبيرة من أصدقاء أبي وأمي، وعندما سألتُُ أخبروني بنبأ الاعتقال، لحظتها ضاق صدري، إلا أنني سرعان ما استوعبتُ الأمر.

 

ويسترجع معاذ تفاصيل زيارته الأولى لوالده، فيقول: لم أرَ أبي إلا بعد خمسة عشر يومًا، كنتُ لا أذهب مع أسرتي في البداية نظرًا لظروف دراستي، فكانت تعاملاتي مع أبي عن طريق "الجوابات"، وفي أولى زياراتي له اندفعت نحوه بكل قوتي، وبكيت، وجلست أقصُّ عليه كل ما حدث في الفترة الماضية.

 

ويروي معاذ كيف صارت حياته بعد الاعتقال، قائلاً: كان أبي يذاكر معي مادة الرياضيات؛ نظرًا لطبيعة عمله فهو مهندس، وكنت أعود من مدرستي لأُلقي عليه السلام في مكتبه، ثم أنتظر صعوده لتناول الغداء معنا، الآن حينما أمر بمكتبه أقول: "ياااه، فين أيام ما كنت بدخل وأسلم عليه"!.

 

وحينما كانت تظهر نتيجتي الدراسية كنت أجد أبي يحضر لي تورتة نجاحي قائلاً: مبروك، أما هذا العام فقد أحضر لي والدي الهدية بالفعل، إلا أنه أعطاني إياها في المعتقل! ويكمل معاذ- وقد ظهر التأثر على وجهه-: في الأعياد الماضية كنا نسافر إلى بلدتنا دمياط ليلة العيد، أما العيد الماضي فلم نسافر ولقد ذهبنا إلى أبي في المعتقل وكان أول لقاء يجمع بين أسرتنا كاملةً منذ تسعة أشهر مضت! وقام أبي بإعطائي العيدية قائلاً: "اطَّمِّن، مفيش حاجة هاتتغير".

 

وعن تعاملاته مع زملائه بعد اعتقال والده يقول: لا يعلم أحد باعتقال أبي غير عدد قليل من المدرِّسين، وأذكر أنه في يوم من الأيام وبعد عودتي من زيارة والدي إلى المدرسة مباشرةً استوقفني أحد المدرسين قائلاً: "الله يكون في عونك، إنت لازم تصبر، وإن شاء الله والدك هايخرج"، أما عن زملائي فسألني أحدهم ذات مرة: "هوّ والدك ما بيجيش ياخدك من المدرسة ليه"؟! فأجبته قائلاً: أبي مسافر، أما عن تفاصيل الموضوع فلم يعلمها أحد ولا أتحدث فيها.

 

ويضيف معاذ: لم يستطع أحد ملء الفراغ الذي خلَّفه أبي بسبب الاعتقال، وأعلم يقينًا أنه على حق؛ لأن صاحب الأهداف لا بد وأن يلقى أشياء كثيرة في طريقه، وأنا أرى ظلمًا كبيرًا من حولي، ولذا تأكدت من أن والدي على الطريق الصحيح.

 

وبسؤاله عما إذا كان سيختار نفس طريق والده أو لا؟ أجاب: بالطبع، أنا لا أريد الراحة في الدنيا، تمامًا مثل أبي وصحبه؛ فهم يرغبون في الوصول للآخرة، ويعلِّق قائلاً: لو جلستُ في القفص مثل والدي لكان شرفًا لي أن أصبحت عظيمًا مثله.

 

وفي نهاية حديثه وجَّه معاذ رسالةً لِمَن يهاجم والده قائلاً: هاجمونا كما تشاءون، فلن ندخل معكم في عراكٍ، سنسير في طريقنا بكل جدية؛ فهناك الكثيرون يعلمون أننا على حق، فقد وهبنا أرواحَنا لله في هذه الدنيا، راغبين في الوقوف بجوار المصطفى- صلى الله عليه وسلم.
أما رسالته لوالده فقال فيها: "لو حضرتك ماشي في الطريق الصَّحّ إحنا مش هانضايق، اصبر يا بابا الجنة لنا، وأنتم أعظم ناس في مصر؛ لأنكم حافظتم عليها".

 

أخشى النوم بدونه 

 الصورة غير متاحة

سارة أيمن عبد الغني

"بابا كان بيفسَّحنا ويودِّينا المدرسة ويرجَّعنا، وكنا بننَّام جنبه".. كلمات فطرية بسيطة تعكس حزنًا عميقًا حفر ملامحه في قلب هذه الصغيرة قبل وجهها، سارة أيمن عبد الغني (9 سنوات) نجلة المهندس أيمن عبد الغني، تُسطِّر مشاعرها قائلةً: كنتُ أغطُّ في نومٍ عميقٍ، وعندما استيقظت وجدتُ كل شيء في بيتنا مبعثرًا، وأخذ الضابط الكمبيوتر الخاص بنا، وعندما سألتُ أمي أخبرتني قائلةً: "بابا راح المعتقل"، لحظتُها غضبتُ بشدة؛ لأنني كنت أحبُّ أبي، كان يفعل كل شيء من أجلنا، وتضيف قائلةً: أخشى النوم من دونه!!.

 

وتكمل الطفلة حديثها فتقول: عندما رأيتُ أبي لأول مرة بعد اعتقاله احتضنتُه بقوة، وقلتُ له: "وحشتني يا بابا هاتيجي إمتى؟"، فأجابني قائلاً: إن شاء الله لمَّا القاضي يقول.

 

وتحكي سارة حياتها بعد اعتقال أبيها فتقول: كان والدي يصطحبنا في نزهات عديدة، وكان يصطحبنا إلى المدرسة ذهابًا وإيابًا، وكان يُحضر لي هو ووالدتي النتيجة كل عام، وقبل اعتقاله وعدني بإحضار هدية النجاح بنفسه، ولكنه لم يستطع؛ نظرًا لاعتقاله، فطلب من أمي إحضارها، وأشعر بسعادة كبيرة وأنا في طريقي إليه، ثم تشرد سارة ببصرها قليلاً قائلةً: "لو كنتُ موجودة يوم ما أخذوا بابا كنت قلت له: اصبر يا بابا".

 

وعن يوم العيد تقول: كان أبي يذهب معنا إلى بلدته، ويُحضر لنا الهدايا، ويلعب معنا.. أما في العيد الماضي فلم نذهب لأي مكان؛ لأن أبي في المعتقل، وذهبتُ إليه بعد صلاة العيد وأعطى لي العيدية في المعتقل، وقال: "كل سنة وإنتِي طَيّبة".

 

وعن حياتها الدراسية تقول سارة: زملائي في المدرسة يعرفون باعتقال والدي، وأذكر أن إحدى زميلاتي سألتني قائلةً: "هُمّا ليه أخدوا بابا"؟ فأجبتُها قائلة: "علشان بيعرَّف المسلمين الإسلام"، وأنا أشعر بفخر شديد بأبي، وأعلم أنه على حق؛ لأنه كان يسافر مع جدي لِيعرِّفوا الناس بالإسلام ومن أجل ذلك أخذوه!!.

 

وتضيف سارة: لم يستطع أحد أن يملأ الفراغ الذي تركه أبي؛ فنحن لن نستطيع الخروج بدونه، وفي نهاية حديثها وجهت رسالةً إلى القاضي المسئول عن الحكم على والدها قائلةً: "ينفع تخرَّجهم؟!"، ثم أرسلتْ- بمشاعر طفولية وكلمات عذبة- رسالةً أخرى لوالدها قائلةً: "اصبر يا بابا إنت وحشتنا قوي"، أما عن كلمتها لمن يهاجمون والدها تقول سارة: "ربنا يسامحكم وربنا هايوديكوا النار".

 

طال الغياب..

مشاعر فيَّاضة، وكلمات امتزجت بها مرارةُ الشعور بالقهر والظلم؛ لتَخرجَ كلماتٍ تعبِّر عن مدى معاناة الطفل ياسر فتحي بغدادي (11 سنة)، والذي عبَّر عن مشاعره بعد اعتقال والده، قائلاً: كنتُ نائمًا ليلة اعتقال والدي وبحثتُ عنه بعد استيقاظي فلم أجده، اعتقدتُ أنه قضى ليلته بالخارج فانتظرتُه، وعندما طال الغياب سألتُ أمي فقالت: "بابا أخدوه" فاعتقدتُ أنه سيعود سريعًا، إلا أن الغياب طال كثيرًا هذه المرة.

 

شرد ياسر ببصره قليلاً مسترجعًا أولى زياراته لأبيه فقال: أول مرة رأيتُ فيها أبي بكيتُ وبكيت، فقال لي والدي: "خَلِّيك كويس مع إخواتك وأمك"، ولم تستغرق هذه الزيارة إلا نصف الساعة، عُدتُ بعدها للبيت ولم أتفوَّه بكلمة واحدة، زرتُه بعد ذلك مرةً كل أسبوع.

 

ويتذكَّر ياسر صفحاته مع والده قبل الاعتقال، قائلاً: كان أبي كثيرًا ما يفاجئني بخروجه معي دون علم مُسبق، وكان يهتم بمذاكرة كل موادِّي الدراسية معي، وبصراحة شديدة لم يحلَّ أحدٌ محلَّه إطلاقًا، وكان يُحضِر لي دومًا هديةَ النجاح، أما هذا العام فأعطاني إياها في المعتقل، وفرح بنجاحي كثيرًا.

 

وعن قضائه أيام العيد يقول: أثناء وجود أبي كان يصطحبنا في نزهات متعددة على مدار أيام العيد الثلاثة، وبعد اعتقاله لم أذهب سوى مرة واحدة إلى جدي، ولم أذهب لأي مكان آخر، ذهبتُ لأبي أول وثاني أيام العيد وأعطى لي العيدية قائلاً: كل سنة وأنت طَيّب.

 

وأضاف ياسر: في مدرستي الكثيرون ممن يعلمون باعتقال والدي مثل المدير والناظر وبعض المدرسين، وحينما سألني زملائي عن صحة هذا الخبر أجبتهم: "أن نعم"، ويؤكد قائلاً: أعلم أن أبي على صواب؛ لأنني رأيتُ ذلك في أخلاقه، وكان دومًا يقول لي: لا بد وأن تكون متميزًا في عيون الآخرين حتى تستطيع التعامل السَّويّ معهم، ويعود ياسر بذاكرته إلى يوم الاعتقال قائلاً: لو كنت موجودًا في هذه اللحظات لطلبتُ منهم أن يتركوه، فماذا فعل لهم حتى يأخذوه؟!
ويختتم حديثه- وقد اختنقت كلماته بالعَبرات- قائلاً: أُوجِّه كلامي هذا إلى القاضي، طالبًا منه أن يُخرجهم ويُفرِجَ عنهم جميعًا؛ حتى يكونوا وسط أولادهم في بيوتهم، فيستطيعون أن يقوموا بقضاء العيد مع بعضهم البعض، دون أن يتغيَّب واحدٌ منهم، ووجَّه رسالةً لأبيه قائلاً: "بابا عاوزينك، بقالك مدة كبيرة مش موجود، وحشتنا، نفسي ترجع".

 

يوقظني وأوقظه

يسطِّر لنا آخر سطور هذه المعاناة أحمد ضياء الدين فرحات (12 سنة)- نجل الدكتور ضياء الدين فرحات- قائلاً: كنت وقت الاعتقال نائمًا، وذهبت في الصباح كالعادة إلى مدرستي وبعد عودتي طلبتْ مني أُمِّي أن أصنع لوحة أكتب عليها: اللهم رُدَّ غائبنا وجميع معتقلي الرأي من الإخوان المسلمين، كانت هذه اللوحة سَبَقَ أنْ صنعنا مثلها في آخر مرة اعتُقل فيها أبي، وعندما سألتها عن سبب طلبها، قالت: لقد ذهب والدُك مع إخوانه المعتقلين وتقبَّلتُ الأمر فقد اعتدتُ على ذلك لكثرة حدوثه!!.

 

وعن تفاصيل زيارته الأولى يقول: زرتُ أبي بعد اعتقاله بثلاثة أيام، وذلك من خلال زيارة استثنائية، وفرحتُ بشدة لرؤيته، فلم أتوقع زيارته إلا بعد خمسة عشر يومًا، وعندما رأيتُه سلَّمتُ عليه وسألني عن أحوالي وأوصاني بالصبر، كل هذا وأنا أعتقد أن الأمر لن يتعدى مدة قليلة وينتهي.

 

 الصورة غير متاحة

أحمد ضياء الدين فرحات

ويكمل أحمد حديثه قائلاً: أثناء ذهابي إليه أشعر بأنني فخور به؛ لأنه مع هذه الصحبة الصالحة، وعندما ألقاه يُجدِّد لي حياتي ويراجع شخصيتي وتصرفاتي، ويضع لي جداول دراسية وخططًا لتحقيق أهدافي، وأحيانًا يحكي لي عن الإخوة أو بعض المواقف الطريفة التي تحدث، وأرى ارتفاع معنوياته كثيرًا؛ حيث يخلو مع ربه معظم الوقت، مضيفًا أن الكثير من الضباط يُبدون تعاطفًا كبيرًا معنا.

 

وعن سير أحداث حياته بعد اعتقال والده قال: بدأَت هذه الأحداث تُعيد تفكيري في الحياة، بدأت أتذكَّر كلمات والدي عن تخطيط الأهداف وتحقيق الذات، لم أفهم كل هذا أو أعيره اهتمامًا إلا بعد اعتقال والدي، كان والدي وقبيل الاعتقال بشهر يصطحبني يومًا لصلاة الفجر فيوقظني أحيانًا وأوقظه أخرى، وكان يهتم بدراستي ويقوم باستذكار مادتي اللغة العربية والإنجليزية معي.

 

وعن حلم والده يقول أحمد: كان أبي يرغب في أن يراني اجتماعيًّا وقدوةً في كل شيء، وبعد ظهور شهادتي العام الماضي فرح أبي وقال لي: "حلوة، بس عاوز أحسن من كده".

 

ويروي أحمد مشاعره يوم العيد؛ حيث يقول: في أول أيام العيد ذهبتُ لأبي مع أسرتي، وكنا قبل ذلك نذهب لبلدة أبي (المنصورة)، وعندما ذهبتُ لأبي سمح لي بالذهاب لبلدته مع عمتي، وقد طلب من عمي أن يُعطيني العيدية.

 

ويقول أحمد متخيلاً: "لو كنت مستيقظًا يوم اعتقاله لحدثت الضابط وقلت له: إنت عاجبك اللي أنت بتعمله؟!".

 

وعن ردود أفعال زملائه بعد اعتقال والده يقول: جميع زملائي بالصف يعلمون بنبأ الاعتقال، وذات مرة رآني أحدهم على التلفاز في إحدى المحاكمات وعندما سألني أجبته قائلاً: "دي حفلة إفطار الإخوان من سنة"، أما عن المدرسين فيقول: الكثيرون يعلمون باعتقال والدي، وأذكر أن أحد المدرسين قال لي: "هوّ والدك محبوس ليه؟!" فأجبته: لأنه "إخوان مسلمين" فقال: "يا عم ده وجع دماغ"!! فقلت له: لا؛ ليس كذلك، فقال: "يعني نفسك تطلع منهم؟" فقلت له: طبعًا، فقال: "وافرض اتحبست؟!" فأجبته قائلاً: "كله في سبيل الله"!!!.

 

وعن لحظات ظهور نتيجته الدراسية يقول أحمد: كنا في السابق نقوم بعمل حفلة جماعية؛ نظرًا لأن نتائجنا الدراسية تظهر في أوقات متقاربة، ويتفق أحمد مع زملائه من أبناء المعتقلين قائلاً: أنا متأكد من أن أبي على صواب؛ لأني أرى مَن اعتقلوه على خطأ؛ إذن فلا بد أن يكون أبي على صواب، كذلك فإن التهمة الموجَّهة إليه هي مساعدة الفقراء وإغاثة الفلسطينيين وهذا واجب كل مسلم.

 

ووجه أحمد حديثه لمهاجمي والده قائلاً: أقول لكل من يهاجم أبي وإخوانه: هذا هو طريق الدعاة والمصلحين؛ فعلى سبيل المثال سيدنا يوسف كان يرغب في السير على الطريق الصحيح فسُجِن ثلاث أو أربع سنوات، وسيدنا محمد سُجن في شِعب بني هاشم، إذن فلا بد من الإيذاء، سواء كان نفسيًّا أم معنويًّا.

 

وأنهى أحمد حديثه برسالة لوالده قائلاً: "اثبت يا بابا هو ده الحق".

هكذا كانت الكلمات بسيطة تلقائية، وهكذا كانت المشاعر صافية نقية، تلمس القلوب، واصفةً معانيَ كثيرةً قد يعجز عن وصفها البلغاء، كلمات شقَّت طريقها من قلوب صغيرة صافية، مستهدفةً قلوب مَن يهمُّهم الأمر؛ علَّهم يعيدون الابتسامة لتلك القلوب النضرة، ومَن يدري سوى ربي؟! فلا أحد يتوقع ما يخفيه القدر بين طياته لهؤلاء الصغار وذويهم.