- مسوغات البراءة هي نفسها أسباب الأحكام علينا بـ 3 و5 و7 سنوات!!
- كنت مرتبطًا يوم اعتقالي بمناقشة رسالة دكتوراه والسفر لليبيا
- النظام أفرج عن جسم جريمة "العرض الرياضي" وحوَّلنا نحن إلى قضية
- أجلسونا ساعتين في سيارة الترحيلات لإصدار أمر اعتقال جديد
- أحالونا إلى محكمة عسكرية دون إبلاغ محامينا وحضرنا أول جلسة دونهم
- كنت أتوقع براءة الجميع.. وجاءت الأحكام مخالفة للقانون والدستور
- أصعب لحظة مرت عليَّ في السجن زواج ابنتي وأنا بعيد عنها
- خيرت الشاطر هو الأب الحنون والأخ الأكبر لكل رهائن العسكرية
حوار- إسلام توفيق:
بصوتٍ مفرح، ردت علينا زوجة الدكتور عصام عبد المحسن أحد المفرج عنهم في المحكمة العسكرية، عندما اتصلنا به لاستضافتنا لإجراء حديث معه بعد قضائه مدة الحكم عليه بـ3 سنوات، وفي بيت مبهج امتلأت بالزغاريد والفرحة جنباته، استقبلنا الدكتور في بيته لنجري حديثًا لم يتعدَّ الساعة تلقى فيه عشرات التليفونات لتهنئته بخروجه وإطلاق سراحه وحصوله على حريته.
الدكتور عصام عبد المحسن عفيفي محمد، أستاذ الكيمياء الحيوية بكلية الطب بجامعة الأزهر، من مواليد 7 ديسمبر 1956م، بمحافظة الجيزة، حصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة القاهرة سنة 1980 بتقدير عام جيد جدًّا، وحصل على ماجستير الباثولوجيا الإكلينيكية بطب القاهرة سنة 1984م، ثم ماجستير الكيمياء الحيوية طب الأزهر سنة 1986م، ودكتوراه في الكيمياء الحيوية من طب الأزهر سنة 1990م، ويعمل أستاذًا زائرًا للكيمياء الحيوية بكليات طب ليبيا جامعة المرقب وجامعة السابع من أبريل، ومدير وحدة الجودة وضمان الاعتماد بكلية الطبّ جامعة الأزهر، وأمين الصندوق المساعد لنقابة أطباء القاهرة، ومقرِّر اللجنة العلمية بالكلية، وعضو الجمعية المصرية لمكافحة العدوَى.
وإلى نص الحوار..
البداية
* لو عدنا بالذاكرة للخلف عندما نشرت بعض وسائل الإعلام صور العرض الرياضي الخاص بطلاب جامعة الأزهر، والذي تم اعتقال المهندس خيرت الشاطر على إثره، ثم توالى اعتقال قيادات الإخوان، وكنت أنت واحدًا منهم، هل شعرت وأنت تشاهد هذه الصور أن الأمر سيتطور إلى هذه الدرجة؟!
** في البداية.. لم تكن ميليشيات كما ادَّعى الأمن وكما ادعت الصحف، ولكنها طبيعة الطلاب الذين يعترضون على أي خطأ قد يحدث بالكلية، كما اعترضوا من قبل على سوء التغذية بالمدينة الجامعية، وكما اعترضوا من قبل على تزوير الانتخابات الطلابية وتعيين اتحادات بعينها دون انتخابات.
وهنا يكون الخطأ الأول نابعًا من إدارة الجامعة التي زورت إرادة الطلاب في انتخابات الاتحادات الطلابية وشطبت كل طلاب الإخوان من الانتخابات، تبعه تصرف خاطئ من الطلاب، دون دخل لأعضاء هيئات التدريس الذين لم يعلموا بهذا العرض ولم يحضروه ولم يشاركوا فيه.
ولكن يجب تأكيد أن هذا أمر عادي جدًّا يحدث كل عام أن تتعنت إدارة الجامعة ضد الطلاب وتقوم بشطبهم، يتبعه احتجاجات واعتراضات من قبل الطلاب، وهو ما قاموا به فعلاً على مدار عدة أيام، ولكن تصرف الطلاب هذه المرة كان سيئًا حيث أرادوا أن يختموا اعتراضاتهم التي استمرت لأيام بعرض تدرب عليه وتعلمه طلاب التربية الرياضية ويتعلمه كل أولادنا في النوادي "كاتا 1" و"كاتا 2"، مع العلم أنه لولا الماسكات التي كان يرتديها الطلاب لما حدثت هذه الهوجة، وما قالوا إنه عرض عسكري أو عرض شبه عسكري، وهنا أؤكد أنه عرض رياضي عادي بحركات سهلة جدًّا هي بدايات تعلم الكاراتيه.
والدليل على ذلك أن الطلاب أنفسهم هم مَن قاموا بالتصوير، وهم مَن قاموا بإرسال الصور والفيديوهات لوسائل الإعلام، مع العلم أن المظاهرة لو كانت تضم 1000 طالب لم يكن هناك أكثر من 20 فقط هم مَن يرتدي هذه الماسكات.
ومن المؤكد أن الذي يسمع هذا الكلام يتساءل عن دورنا كأعضاء هيئات تدريس، وأقول لهم إننا ليس لنا دور في القضية برمتها، ولم نكن نعرف بها ولم نشارك فيها، ولكننا فوجئنا بزج أسمائنا في المعدين للعرض الرياضي، وبعد يومين فقط فوجئنا باعتقالنا؛ وكان أمر الاعتقال غريبًا أيضًا، حيث كان اعتقالي مع الدكتور صلاح الدسوقي والدكتور فريد جلبط، فقط من داخل جامعة الأزهر، وباقي المعتقلين من خارج الجامعة، وهم ليس لهم علاقة بالجامعة من الأساس!!.
فنجد أنه من ضمن المعتقلين من هم خارج جامعة الأزهر، ومن هم من خارج أعضاء هيئات التدريس، ومن ثم؛ مَن هم من خارج القاهرة هناك أشخاص من الإسكندرية وأسيوط، ووصل الأمر لإدانة مَن هم خارج مصر!.
بعد هذا فوجئنا أنهم قاموا باعتقال 140 من طلاب الأزهر بعد اقتحام المدينة الجامعية للطلاب وشقق سكنهم وحجزهم معنا بسجن طرة، بعدها تم إطلاق سراحهم، وظننا أن القضية قد انتهت، بعد الإفراج عن جسم الجريمة، إلا أننا فوجئنا أن القضية مستمرة ووجهت إلينا اتهامات غريبة!!.
ولكننا أيقنا في النهاية أن النظام يريد اعتقال أشخاص بعينهم، واتخذ من العرض الرياضي وسيلة للنيل من الجماعة في أشخاص مثل المهندس خيرت الشاطر والدكتور بشر وغيرهم من قيادات الجماعة.
توقف نشاط
د. عصام عُرف بنشاطه الكبير في الجامعة |
** كان أمرًا صعبًا عليَّ أن أترك كل المهام الموكلة إليَّ فقد كنت أشارك في كل الأنشطة الاجتماعية والعلمية بالكلية، وكنت مسئولاً عن لجنة الجودة وتطوير التعليم في الكلية، وقد كنت قبل اعتقالي بأسبوعين على رأس وفد من الطلبة والطالبات في مؤتمر عالمي للجمعيات العلمية بجامعة الزقازيق، وعضو مجلس نقابة أطباء القاهرة وأمين الصندوق المساعد ومقرر اللجنة العلمية بالنقابة، وعضو الجمعية المصرية لمكافحة العدوى.
وقد شاركت في تنظيم وإعداد المؤتمر الدولي الثاني لمكافحة العدوى، كما أنني محاضر في العديد من المؤتمرات للتوعية بمرض إنفلونزا الطيور في عدد من المحافظات المصرية، بالإضافة لكوني عضو الجمعية الطبية الإسلامية ومدير المعمل المركزي للجمعية "الخاص بالتحاليل النادرة".
هذا، فضلاً عن كوني كنت أحد المرشحين لوكالة الكلية؛ حيث حدثني عميد الكلية وقتها بأنه يرغب في تكليفي بوكالة الكلية، غير أنني كنت يومها أجهز نفسي لمناقشه رسالة دكتوراه لإحدى الطالبات بكلية الصيدلة، فقد كنت مشرفًا ومناقشًا على الرسالة، كما كنت أجهز نفسي للاستعداد للسفر يومها ليلاً مع جمعية مكافحة العدوى المصرية للجمهورية الليبية لإلقاء عدة محاضرات هناك لمدة خمسة أيام، أعود بعدها لتجهيز نفسي لأداء فريضة الحج التي كنت قد حصلت على تأشيرتها كمشرفٍ على وفد نقابة أطباء القاهرة.
إجمالاً.. كانت السنوات الثلاث السابقة لاعتقالي من أنشط الفترات في حياتي حيث إنني كنت أسافر كثيرًا، وتشعب نشاطي في أكثر من مكان وأكثر من جهة، ولكن يبدو أن الدولة والنظام تأبي للنشطاء أو الكفاءات أن يكون لهم دور فتقوم باعتقالهم.
اتهامات غريبة
* اتهامات غريبة وجديدة توجه أول مرة للإخوان المسلمين، على رأسها غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.. كيف استقبلتم هذه الاتهامات؟
** لم توجه لي تهمة غسيل أموال، ولكن فوجئت بتوجيه تهمة الإرهاب لكل الإخوان، رغم أننا كلنا ضد الإرهاب، فنحن أساتذة تربويون نساعد الطلاب في تحصيل العلم، أو رجال أعمال محترمون لن يستطيع أحد التشكيك في ذمتنا المالية.
فهي تهم غريبة، وكان القاضي سواء المدني أو العسكري يضحك منها لأنها موجهة لهذه المجموعة التي تعتبر من شرفاء الوطن، وخير دليل على ذلك أننا بمجرد عرضنا على النيابة حصلنا على البراءة، إلا أن الداخلية كانت تعترض على قرار النيابة، فيتم عرضنا على محكمة الجنايات تبرئنا من التهم الموجهة إلينا، فتعترض الداخلية مرةً أخرى، لتحدد جلسة أخرى بالجنايات لتبرئنا مرةً أخرى، ونحصل بذلك على إفراج وجوبي، وهو ما حدث إلا أنه عند ترحيلنا إلى سجن طرة ظللنا على باب السجن لمدة ساعتين كاملتين حتى صدر لنا قرار اعتقال جديد.
وبعد الاعتقال والتظلم والبراءة والتظلم مرةً أخرى وحكم البراءة الجديد، لم يكن لهم مخرج لظلمنا إلا بإحالتنا إلى محكمة عسكرية، ومن المفارقات أن هذا كان أول اعتقال لي، وتم فيه إحالتي لمحكمة عسكرية وحصولي على حكم بـ3 سنوات.
ضد الشرفاء
د. عصام يتلقى اتصالات التهنئة بالإفراج |
* مهزلة.. هكذا وصف المراقبون إحالتكم إلى محكمة عسكرية بعد تبرئتكم من محكمة الجنايات وإحالتكم إلى محكمة عسكرية التي استمرت أكثر من سنة ونصف.. كيف تراها؟
** بمجرد ذكر هذه القضية، أشعر بالأسى والحزن؛ ليس للابتلاء الذي وقع فيه الإنسان، ولكنه لحال البلاد الذي ينحدر يومًا بعد الآخر، فعندما ترى خيرة رجال البلد يعاملون هذه المعاملة، لا بد أن توقن أننا سنظل ضمن دول العالم الثالث ولم نتقدم، فعندما يُعتقل شخصٌ مثل الدكتور خالد عودة المشهود له عالميًّا في مجال الجيولوجيا، وعندما يُعتقل الدكتور محمود أبو زيد أستاذ الطب، وعندما يُعتقل الدكتور عصام حشيش العالم الفذ، وعندما يُعتقل رجال الأعمال الشرفاء أمثال خيرت الشاطر وحسن مالك والدكتور عبد الرحمن سعودي وغيرهم من أصحاب الشركات المشهود لها بالدقة والالتزام.. لا بد أن توقن أننا سنظل متأخرين وفي ذيل الترتيب.
فهذا كله إهدار لعلم وخبرة وأبحاث هؤلاء العلماء، وهؤلاء الرجال الذين ليس في رأسهم وفكرهم ورؤيتهم إلا مصلحة البلاد والنهوض بها.
مهازل
* عام ونصف العام كانت مدة المحكمة العسكرية، وأنتم من شهدتم هذه المرحلة بكل أبعادها.. ما كواليس هذه الفترة؟
** كنا نعاني أشد المعاناة.. فسيارة الترحيلات مأساة، والسجن قبل المحكمة مأساة، والسجن بعد المحكمة مأساة، ولكن ما هوَّن علينا قليلاً أن القاضي العسكري كان في موقف محرج، حيث تم وضعه في قضية هزلية ومطالب بأن يصدر أحكامًا وكأنه موظف، حيث لم يكن مطلق اليد في إصدار الحكم الحقيقي، إنما كانت أحكامًا معدة مسبقًا.
زاد من المهزلة.. أنه تم إحالتنا إلى قضية عسكرية دون إعلام المحامين، حيث أخبروهم أن أول جلسة في اليوم الثاني لإحالتنا للعسكرية، وهو ما جعل القاضي وقتها يسمح لنا بالكلام والدفاع عن أنفسنا.
مهزلة أخرى في نهاية الجلسات عندما غيرت النيابة قرار الاتهام وحذفت تهمة غسيل الأموال، بعدما استطاع المحامون تفنيد كل الاتهامات والرد عليها، ونستطيع أن نقول إن القضية العسكرية الأخيرة للإخوان هي العجيبة الثامنة من عجائب الدنيا!.
كلمة للقاضي
* تقولون إن القاضي سمح لكم بالكلام، هل تتذكر ماذا قلت له؟
** في البداية عرفته بنفسي.. وذكرته بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "القضاة ثلاثة.. اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".
النطق بالحكم
* كان يوم النطق بالحكم مشهودًا على أهاليكم وإخوانكم خارج المحكمة، حيث اعتدى الأمن على الرجال والنساء.. ماذا حدث معكم في الداخل؟ وكيف استقبلتم الأحكام المتباينة؟
** بالفعل كان يومًا مشهودًا، فقد ظهر أنه يوم النطق بالحكم منذ ركوبنا سيارة الترحيلات، حيث غيرت سيارة الترحيلات خط سيرها، حتى لا ندخل لقاعة المحكمة بالطريق المعتاد حتى لا يرانا أهلنا وإخواننا، كما منع الأهالي والمحامون من دخول القاعة ولم يسمح إلا لرئيس هيئة الدفاع للحصول على منطوق الأحكام المتباينة في ظل ثكنة عسكرية في الخارج.
* وماذا كنت تتوقع من أحكام؟
** كنت أتوقع البراءة للجميع؛ لأنه ليس هناك تهم من الأساس.. فجميعنا ليس لنا علاقة لا بغسيل الأموال ولا بالإرهاب، فكيف تتهم رجل تعدى الستين من عمره لا يستطيع أن يقتل فأرًا بتهمة الإرهاب.
وإذا كنت وأنا عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر لم يكن لي علاقة من قريب أو من بعيد بالعرض الرياضي الذي اتخذوه ذريعة لإحالتنا لمحاكمة عسكرية، فما بالك بمن ليس له علاقة بالأمر من الأساس!!.
* ولكن الأحكام ظهرت متباينة ما بين البراءة والثلاث والخمس والسبع والعشر سنوات.. مع أن التهم واحدة؟
** وهذا يؤكد كلامي أنها العجيبة "الثامنة" من عجائب الدنيا، فقد بدا من الأحكام أن النظام أراد وضع المجموعة كلها في قارورة ويضع فيها أوراق الإخوان، يختار 15 منهم يحصلون على البراءة، و10 يحصلون على 3 سنوات، و5 يحصلون على 5 سنوات مثلاً، كالطرفة التي تحكي علينا كأعضاء هيئات التدريس عندما نصحح أوراق الامتحانات ونرمي بها على السرير، والورقة التي تقع على وجهها ينجح صاحبها ومَن تقع على ظهرها يرسب صاحبها!!.
ويؤكد هذا التباين والازدواجية أن نفس المصوغات التي حكمت على بعض الإخوان بالبراءة، هي نفسها التي حكمت على غيرهم بـ 3 سنوات و5 سنوات!!.
تضامن طلابي
* على مدار سنوات الحبس وجدتم تضامنًا طلابيًّا سواء على صعيد أعضاء هيئات التدريس، أو على صعيد الطلاب.. كيف كنتم تستقبلون هذه الفعاليات؟
** أي شخص كان يقول كلمة ولو بصوت منخفض للتضامن معنا كنا نطير به فرحًا، فماذا عندما تشعر أن طلابك وزملاءك يشعرون بك ويحسون بك ويقدرون المجهود الذي كنا نقوم به معهم.
وأدلل على كلامي أنه بمجرد خروجي من السجن، ذهبت صبيحة اليوم التالي للجامعة، ووجدت حفاوةً واستقبالاً كبيرًا من الطلاب وأعضاء هيئات التدريس ووكلاء الكلية، والموظفين والعمال وكل من قابلني في الطرقات، فقد كانت حفاوة لم أرها من قبل، حتى وصل الأمر أن الطلاب تركوا محاضراتهم للسلام علي وتقبيل يدي.
هذا، غير أن زملائي بالقسم بكوا من الفرح عندما وجدوني أمامهم، وأخذوني بالأحضان والحفاوة والشوق على هذه الغيبة الطويلة عليَّ وعليهم.
ظلم
* ثلاث سنوات قضيتها مظلومًا في السجون.. كيف مرت عليك هذه السنوات الطويلة؟
** أشد ما على الإنسان أن يشعر بالظلم وكبت الحرية، وأقسى ما يقابله أنه لن يستطيع أن يتحرك إلا ومن هو بجانبه يتتبع خطواته ويراقبه ويمسك فيه خشية أن يهرب منه "العسكري"، هذا فضلاً عن سوء المعاملة وسوء المكان الذي احتجزنا فيه سواء كان في الشهر الأول بسجن المحكوم، أو باقي المدة بسجن طرة.. فكلاهما سجن وكلاهما قمع للحرية وتضييق على الإنسان، وإحساس بالمرارة والألم.
أخوة
* مَن كان معك في الزنزانة طوال الثلاث سنوات مدة الحبس؟
** كان معي الدكتور محمد علي بشر والدكتور عصام حشيش والمهندس مدحت الحداد.
* من كان أقربهم إلى قلبك؟
** الحقيقة أن جميع من في الغرفة يستوون في حبهم إلى قلبي؛ لأن لكل منهم شخصية وميزة تجبرك على حبه، وكانوا جميعًا يقفوا بجانب بعضهم لتخفيف الآلام والشد من الأزر، فقد كانت الأرواح مع الجميع تتلاقي ونحاول إيجاد روح حب وإخوة وتفاؤل بين الجميع، وهي ما يميز الإخوان حيث إن كل مجموعة منا كانت لها سمة وأسلوب وروح جميلة، ولكن الدكتور عصام حشيش صديق قريب إلى نفسي جدًّا.
* تحدثت عن الإخوة.. كيف كانت بينكم داخل السجن، احكِ لنا موقفًا لن تنساه؟
** صراحة.. إذا ذُكرت الأخوة ذُكر المهندس خيرت الشاطر، فعلى الرغم من كونه أحد الذين وقع عليهم الظلم مرات عديدة، وصودرت أمواله أكثر من مرة وتم اعتقاله ومحاكمته عسكريًّا أكثر من مرة إلا أنه كان نموذجًا في الصمود والتخفيف عن باقي الإخوان.
فقد كان لنا أخًا كبيرًا يشعر بألم أو فرح كل واحد منا، وكان يسعى بكل قوته لمداواة ما به من حزن والأكيد أنه يجب علينا أن نثبت، وأن نقف بقوة أمام الابتلاءات التي هي في ميزان حسناتنا جميعًا.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام أثناء حبسنا في سجن المحكوم السيئ، كنت أجلس وحيدًا بعيد عن المجموعة أفكر في حالي وأولادي ولماذا أنا هنا، في الوقت الذي لم أبين شيئًا لهم، وتعمدت الاختفاء بعيدًا عنهم حتى لا يشعروا بي، إلا أنني وجدته يقف بجانبي و"يطبطب" عليّ ويقول لي لا تحزن وشد من أزري وأخرجني من حالي إلى حال آخر تمامًا لأني لمست منه صدقًا وحبًّا في كلامه.
أصعب لحظة
زواج كريمة د. عصام وهو معتقل أصعب اللحظات التي مرت عليه
* ما أصعب المواقف التي مرَّت بكم وأنتم خلف القضبان؟
** تغيرت نبرة كلام الدكتور عصام لحزن عميق وعيناه تغرغران بالدموع: "هي اللحظة التي تزوجت ابنتي نيرة فيها بعيدًا عني، فكل أب يحلم ويحب أن يكون بجانب ابنته، وهي تتزوج ويعطيها لزوجها بنفسه.
كما كنت أحلم كأي أب أن أشاركها الفرحة، وأن أقف بجانبها وهي تشتري مستلزماتها، وأن أقف مع العمال عند تجهيز شقتها، وأن أستقبل ضيوفها في حفل الزفاف وأشرف عليه بنفسي.
فكون أن الإنسان يُحرم من هذا الجو الجميل والذي لا يتكرر.. فهو شيء صعب جدًّا على النفس، ولكن إخواني بالسجن حاولوا الشد من أزري وأزر إخواني الذي تزوج أولادهم أو بناتهم أثناء حبسهم.
* عندما كنت تخلو مع نفسك.. ففي أي شيء كنت تفكر؟، هل كنت تفكر في السبب الذي أتى بك إلى السجن؟، وهل أصابك شعور بالندم على الأيام التي تركت فيها أولادك؟
** كان صعبًا علي، وكثيرًا ما كنت أتألم عندما أفكر أن أولادي بحاجة إلي، خاصةً أنني دخلت السجن وهم في المرحلة الثانوية "المراهقة"، وكانوا في أشد الاحتياج إلي.
ولكني ما ندمت يومًا على أنني كنت أحد النشطاء والمنادين بالإصلاح، ولم أندم يومًا أنني كنت في جماعة الإخوان المسلمين التي تربيت فيها على أن تقديم التضحيات في سبيل الله عز وجل أحد عوامل النجاح والإصلاح والتقدم.
فالإخوان جماعة تحثنا على الخير والصلاح وتأدية الواجبات، فضلاً عن أنها علمتنا أنه رغم اختلافي مع الآخرين، إلا أن مصلحة البلاد والأمة هي المعول الأساسي في الأمر.
يوم بعد يوم
* أيام الإخوان كثيرًا ما نجد فيها الجديد والغريب ويختلف كل يوم عما هو قبله.. كيف كنتم تقضون يومكم داخل السجن؟
** على الرغم من أن جلسات المحاكمة كانت متلاحقة، والتي لم يسبق لها مثيل على مدار المحاكمات العسكرية أو غيرها، ولكن كما قلت: فالصحبة تعين على الخير، فعلى مستوى الزنزانة كنا نستيقظ قبل الفجر بساعة تقريبًا، وكل منا بين متهجد وقارئ للقرآن، ثم نصلي ركعات في جماعة، وبعدها نصلي الفجر، ونجلس بعد الفجر نوصي بعضنا بعضًا بالخواطر والرقائق.
ثم نجلس للأذكار ونستريح قليلاً استعدادًا للزيارات، وبعد الزيارة نستعد للغداء، وفي آخر النهار ما بين أذكار المساء وصلاة المغرب والعشاء، ومجالسة الإخوان؛ لنتدارس بعض المعاني، ثم تُغلق علينا الزنازين فنبقى بين مدارسات، ثم يخلو كل منا إلى نفسه بين قراءة وحفظ وتأمل وكتابة.
عشق العمل
* ثلاث سنوات بعيدًا عن أبحاثك وطلابك.. كيف أثرت هذه الفترة عليك؟
** كانت سنوات صعبة علينا جميعًا، ولكننا كنا نتغلب عليها فجميعنا كان معه كتب نتدارس فيها، وأبحاث نكتبها، ورؤى وأفكار نوهب وقتنا لها لصياغتها وإعادة التفكير بها.
ولكن كان صعبًا على المرء أن يترك رسائل الدكتوراه التي كان مشرفًا عليها، وكان صعبًا عليَّ أن ابتعد عن طلابي ومحاضراتي ومعاملي.. ولكنه أمر الله وكنا على يقين بأنه أفضل لنا، وها نحن عدنا لنستكمل ما فاتنا.
هذا، غير أن منا من تقدَّم بدراسات جامعية سواء ماجستير أو دكتوراه، أو تقدم للحصول على مؤهلات كالتجارة والحقوق بجانب تخصصاته.
أبوة
د. عصام عبد المحسن مع نجليه
* اشتهر الدكتور عصام عبد المحسن عن غيره من رهائن العسكرية أنه كانت له رسائل متبادلة بينه وبين أولاده.. ما هي طبيعة هذه الرسائل وكيف كانت فكرتها؟
** كما قلتُ سلفًا، عندما تم اعتقالي كان أغلب أولادي في المرحلة الثانوية (المراهقة) وكان أكثر ما كانوا يحتاجوا إليه قربي منهم، ونظرًا لأن وقت الزيارة قصير ولا يسمح لي بالاطمئنان على كل الأحوال، فكانت هذه الرسائل المتبادلة والتي نشر (إخوان أون لاين) بعضًا منها.
الليلة الأخيرة
* هل تتذكر كيف مرّت عليك آخر ليلةٍ قضيتها في زنزانتك قبل الإفراج عنك؟
** لك أن تتخيل الموقف، وأنت تقوم بترتيب أمتعتك للخروج من السجن، في حين أن أخاك المتهم بنفس التهم الواهية يؤسس للبقاء أشهر وسنوات جديدة، وأنا أعرف جيدا أنه ليس متهمًا، وأعرف جيدًا أنه أفضل مني، ولم يرتكب مع غيره جريمة حتى يعاقب عليها، ويدور في نفسي سؤال لماذا أتركهم وأخرج؟!
ولك أن ترى الدمع في أعيننا نحن المفرج عنا، والفرحة في عيونهم هم الباقون والقابعون في السجون لأشهر وسنوات قادمة.
حقيقة.. من أكثر اللحظات التي عانيت فيها هي لحظة خروجي، حيث كنا نتصور أننا نترك جزءًا منا داخل السجن ونخرج، وأنا أتخيل أنني لو جمعت مدة الوقت الذي جلست فيه مع زوجتي وأولادي خلال فترة زواجي لأجدها أقل كثيرًا من فترة الثلاث سنوات التي قضيتها بطولها وعرضها مع إخواني في السجن.