مصانع تغلق، وعمال يشردون، وبطالة تزداد، وانخفاض ملحوظ بالناتج القومي الإجمالي ونصيب الفرد السنوي، فضلا ًعن تعطل عمل القطاعات الإنتاجية الرئيسية (الصناعة، التجارة، الإنشاءات، الخدمات، الزراعة).

 

 33% من المواطنين أصبحوا عاطلين عن العمل، في حين أن 14% يعملون جزئيًّا لبضع ساعات أو أيام. كما يعيش 64% تحت خط الفقر. ويعاني 70% من نقص في المواد الغذائية، و79% يعانون من نقص حاد في الأدوية، إلى غير ذلك من الخسائر البشرية اليومية في الأرواح.

 

السطور السابقة جزء من معاناة الشعب الفلسطيني منذ بدء الحصار الصهيوني الغاشم، ورغم حجم المأساة فإن الشعب الغزاوي البطل لا يعرف غير لغة الصمود، ليسجل التاريخ أن إرادة المستضعف باتت أقوى عشرات المرات من جبروت الغاصب المحتل.

 

إنه لا يمكن لشعب أن يقاوم حصارًا تآمريًّا شرسًا لا يعرف الرحمة، وليس له قلب يسمع به بكاء الأطفال والنساء وأنات الشيوخ، على مدى أكثر من ثلاث سنوات متصلة، تتخللها حرب همجية كالحرب على غزة، إلا إذا كان هذا الشعب يملك مقومات غير عادية، مقومات تربت عليها الأجيال تلو الأجيال، تبث فيهم روح الصمود وتغرس فيهم جينات البطولة، وتعلمهم أن الموت بكرامة وفي سبيل الله أفضل مائة مرة من عيش ذليل، يفرط في المقدسات ويبيع المبادئ ويهدر قيم الحق والعدالة.

 

غزة لا تعرف الاستسلام، وشعب غزة يبهر العالم بقوته وعزته وإبائه، والبقعة الصغيرة من أرض فلسطين الحبيبة تعلم العالم والمسلمين كل يوم، دروسًا بليغة في كيفية رفع الرأس، حتى ولو أراد أهل الأرض كلهم أن يواروها التراب.

 

حصار غزة في فلسطين، وحصار المسلمين في شعب بني هاشم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، التاريخ يعيد نفسه ليسرد نفس الأحداث، نفس الجبروت والوحشية والحقد على الإسلام، ونفس الإيمان بالمبدأ والثقة في نصر الله والتعلق بجبار السماوات والأرض حتى يتحقق الوعد، وعد الدنيا، أو وعد الآخرة.

 

إن ملحمة شعب غزة البطل في مقاومة هذا الحصار العنيف وراءه مقومات عقيدية وتربوية وإيمانية، تمكن هذا الشعب أن يستمر كي يلعب دور البطولة على مسرح الأحداث السياسية في العالم لسنوات طويلة قادمة..

 

 لعل منها ما يأتي..

قوة العقيدة

لا يمكن أن يهزم الإيمان بالله شيء، وقوة العقيدة هي أمضى سلاح عند المسلمين، سلاح لا يمكن أن تعادله قوة الطائرات والدبابات، فالطائرات والدبابات قوة مستمدة من البشر، أما قوة العقيدة، فهي قوة مستمدة من خالق البشر وجبار السماوات والأرض.

 

لم يفلح عدد المشركين في بدر، والذي فاق عدد المسلمين بثلاثة أضعاف خلاف العدة والعتاد، أن يهزم المسلمين.

 

﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)﴾ (الأنفال).

 

ولم تفلح عشرة آلاف من مشركي الجزيرة العربية أن يكسروا شوكة المسلمين في المدينة، بعد حصار دام قرابة ثلاثين يومًا.

 

لم يفلح منع الغذاء والدواء والكساء عن أهل غزة لسنوات، أن يجبرهم على رفع أيديهم مستسلمين متنازلين عن القضية وعن الحق والكرامة، ولم تنجح الطائرات والقنابل الفسفورية التي استخدمها الكيان الصهيوني بكل عنفوانه، أن يكسر شموخ الأطفال وهم يقفون أمام دبابات العدو.

 

في كل مرة كان الإيمان بالله أقوى، وكانت الثقة- وستظل بإذن الله- في وعد الله أمضى، ومهما اشتدت الشدائد على أهل غزة، سيرفعون أيديهم إلى السماء في جوف الليل بالدعاء أن يثبتهم وينصرهم ويمهلهم الصبر على البلاء، وستهون الصعاب طالما كان في جوف الليل وقت لقيام الليل، وقراءة آيات الفوز بالجنة، وهو الفوز العظيم.

 

يقول صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدِّين، ونور السموات والأرض" (رواه أبو يعلى والحاكم عن الإمام علي رضي الله عنه).

 

الصبر

لا إيمان دون صبر، فهما متلازمان، لذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه نصف الإيمان، فقال في الحديث "الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله" (رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح).

 

الطاعة يلزمها صبر، وترك المعصية تحتاج إلى صبر، والبلاء يحتاج إلى الصبر،
ولأن الصبر مر، يرهق النفس ويشعل الذهن، ويتعب البدن، وعد الله الصابرين مكافآة خاصة، فقال لهم:

﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: من الآية 10)، والدفاع عن الحق لا يمكن أن يكون إلا بصبر على قول الحق والثبات عليه، مهما تآمر الباطل، ومهما نال أصحاب الحق من أذى.

 

ولقد نال أهل غزة من الأذى الكثير تحت الحصار، وكان الصبر هو سلوى الأمهات وهن يرين أولادهن يتضورون من ألم الجوع ونقص الدواء، وكان الصبر هو سلوى الآباء الذين لا يجدون غذاء لأسرهم إلا بشق الأنفس، لأن المعابر مغلقة، والسبيل إلى فتحها مرهون بمفاوضات لا أول لها من آخر، وكان الصبر هو سلوى أصحاب المنازل التي انهارت في حرب همجية وحشية لا ترى إلا بعين الحقد والجبروت.

 

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾ (الأحقاف).

 

إنهم أهل غزة الصابرون، يتذكرون الصبر في كل لحظة حتى يستقووا به على مشقة الألم ومرارة الأيام، ويرفعون أبصارهم إلى السماء كل ليلة، يطلبون من الله الجزاء، وسيوفون أجورهم بإذن الله بغير حساب.

 

عدم اليأس

قال تعالى: ﴿وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 87).

 

يهزم المرء إذا هزم من داخله، ولم يهزم المسلمون في أرجاء شتى من الأرض، إلا بعد أن هزموا من داخلهم، فاستسلموا لليأس، وتملكهم الخوف من إمكانات عدوهم، فاستسلموا لضعف أنفسهم، قبل أن يستسلموا لغطرسة من يريد المكر بهم.

 

وفي الحروب والقضايا، اليأس يساوي الهزيمة، وهو نفس السلاح الذي حاول الكيان الصهيوني تصديره لشعب غزة البطل، فظل سنوات يجوعهم وهو يخرج له لسانه بأن هذا هو ثمن دفاعكم عن قضيتكم ووقوفكم بجانب حماس، ولما شعروا بأن الكبرياء لا زال تاجًا على رؤوس الجميع، قرروا الحرب، فدمروا البيوت والمدارس وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، وأحالوا الأرض إلى جحيم، ولكنهم فوجئوا كما فوجئ العالم، أن اليأس لم يعرف طريقه قط إلى قلوب الغزاوية، إنهم لا يعرفون أن الإيمان بالله يقتل اليأس، وأنهم مهما فعلوا لن يستطيعوا أن يصدروا اليأس لأهل غزة الأبطال، طالما أنهم يبدءون صلاتهم بشعار النصر، الله أكبر.

 

الذكاء وحكمة التصرف

يقول الرسول الكريم: "المؤمن كيّس فطن

الصبر والصمود فن ينبغي معه التفكير في مواجهة الباطل، وليس معنى الصبر السكون والاستسلام للأمر الواقع، بل القدرة على إيجاد البدائل واختراع الحلول، وإذا كنا نرفع أيدينا بالدعاء وقت الشدة كي يلهمنا الصبر، فإن من إجابة الله لدعائنا، أن يلهمنا حلولاً وطرقًا لمواجهة المشكلة.

 

ولقد تفنن أهل غزة في اختراع فلسطيني أصيل، يبهر كل من يسمع عنه ويغيظ العدو الصهيوني ولا يعرف كيف يقضي عليه، ألا هو اختراع الأنفاق

 

لقد تغلب الغزاويون على الحصار بحفر أنفاق تحت الأرض، بعضها يصل طوله إلى 350 مترًا، جعلت العدو الصهيوني يجن وهو يعلم يقينًا أن عمليات حفر الأنفاق تجري في كل مكان على قدم وساق، ولكنه لا يستطيع أن يحدد مكانها، رغم أجهزة الاستطلاعات الجبارة لديه، وعن طريق الأنفاق يصل الغذاء والكساء والدواء، لتعد الأنفاق هي بوابات غزة على العالم، ومن خلالها تتم حركات التجارة.

 

لقد حاصر الصهاينة الغزاويين فوق الأرض، فأقاموا مدينة جديدة تحت الأرض، لا يعرف الصهاينة عنها شيئًا.

 

إنه الذكاء الذي يحتاجه كل صابر، وحكمة التصرف التي يحتاجها الصامدون، كي يجدوا طرقًا أخرى لحياة طبيعة تعينهم على الاستمرار، فيخف عليهم ضغط المعيشة إلى حد ما، إلى أن يكتب الله أمرًا كان مفعولاً.

 

الثقة في القيادة

في غزوة الأحزاب، وفي أشد الأيام صعوبة على المسلمين، لم يتزعزع إيمان المسلمين بالرسول القائد، والذي كان دائمًا ما يعطيهم الأمل، فكان يضرب الحجر بمعوله فيحدث الصدام شرارًا فيقول: "الله أكبر، فتحت القسطنطينية"، ومرة أخرى يقول: "الله أكبر فتحت رومية".

 

يعد ثقة الشعب في قيادته وإيمانه بها أحد أهم الأسباب التي تعين الشعب على الصمود في وجه المؤامرات، فالقيادة التي تحترم إرادة شعبها وترفع راية العدل في قيادتها، وتساوي بين الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والسياسية، القيادة التي تحرص على حقوق شعبها وترفع من قيمة الإنسانية، القيادة التي تشعر شعبها أنها منهم وهم منها، وأنهم شركاء في الوطن، هذه القيادة تجعل الشعب شريكًا للقيادة في المسئولية واتخاذ القرار، فيصبر معها إذا صبرت، ويتحمل إذا تحملت، ويدافع عنها إذا هوجمت بغير حق، ويقف وراءها لا يتركها مهما قاسوا من شظف العيش وضيق ذات اليد.

 

ومثلما آمن المسلمون بالرسول نبيًّا وقائدًا، فصبروا معه وتحملوا وضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل قضيتهم، مثلما شارك الغزاويون قياداتهم إسماعيل هنية وخالد مشعل وسعيد صيام وغيرهم الكثير، فتحملوا معهم وصبروا مثلما صبروا، وطوال سنوات الحصار، وحتى تحت وطأة الحرب، لم يخرج أحد من أهل غزة الأبطال، يتراجع عن تأييده لحماس وموقفها من القضية، لم يخرج أحد ويقول: نحن نادمون على ما فعلناه، لم يخرح أحد ويقول: نحن أخطأنا في تقديرنا في الأمور، وأننا لن نستطيع أن نتحمل أكثر من ذلك.

 

لم يقل أحد، ولن يقول أحد بإذن الله، طالما بقي الشعب والقيادة متلاحمين تحت مظلة العدل والرحمة والإيمان.

 

إنها مقومات شعب ينتصر كل يوم على أعدائه، وسيظل ينتظر طالما تمسك بها، وسيظل يجبر الجميع على أن يرفع له قبعات الاحترام، وستظل الأمهات تحكي حكايات البطولة والصمود لأطفالهن، إلى أن يأتي يوم ليس ببعيد، تعلو فيه كلمة لا إله إلا الله، على كل معتد أثيم ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾ (الحج: من الآية 40).