استقبلت غزة عام 2009م، بحرب ضروس، دمرت الأخضر واليابس، وأتت على كل مقومات الحياة، وودعته بجدار فولاذي يبنى حولها ليمنع عنها كل معاني الحياة التي تنشدها وينشدها سكانها الأحرار، وإن كان كل عام يمر عليها هو عام حزن، بسبب ما يجري لها وللقدس ولكل شبر في فلسطين من تدنيس اليهود لها، وعربدتهم فيها، في ظل صمت القادة العرب الذين انشغلوا بتبرير ما يقوم به اليهود ضد شعب لا حول له ولا قوة.

 

لقد عاشت غزة بداية العام تحت قنابل حارقة ترمى عليهم من السماء، أو رصاصات غادرة تأتيهم من جنود لا يعرفون إلا الغدر، ولا يعرفون من معاني الحرب إلا التدمير والتخريب والعبث بمقدرات الأمور، حرب ليس لها هدف إلا كسر شوكة أمة أرادت العزة والكرامة على أرضها، شعب أبى الخنوع لما يحدث من مخططات لسلب أرضه وتدمير مسجده الأقصى بزعم بناء هيكل لا قيمة ولا مكانة له إلا في خلد كل يهودي فحسب تربى على المعاني الدموية.

 

لقد ودعت غزة عام 2009م بجدار يبنى بينها وبين أمة مسلمة، وجب عليها مساعدة هذا الشعب الفقير المحاصر الذي لا يجد ما يطعم به أطفاله، أو يداوي به مرضاه.

 

انتهى عام 2009م، ويوشك أن تنتهي مصر من بناء جدار فولاذي، خوفًا من شعب لا يطمع إلا في بعض اللقيمات التي تسد رمقه، أو هدمة تستر جسده، كحق لهم في الإنسانية وليس كمسلم لمسلم، أو جار لجاره، في ظل الظروف التي يعيشونها، في ظل تجاهل قادة نسوا أنه ليس منا من بات شبعان وجاره جائع، من قادة يزعمون الخوف على أمن مصر، وأمن مصر منذ أن خلق الله هذه الأرض وأوجدها ولم يهدد حدودها إلا العدو وليس الأخ والصديق.

 

فمصر منذ آلاف السنين تعيش بدون جدار فولاذي أو جدار من طين؛ لأن الشعب الذي يقطن على حدودها يشاركها قواسم مشتركة من دين ولغة وعدو واحد هو العدو الصهيوني، وليس شعب غزة هم أعداء الشعب المصري الذي يتشدق به قادتنا أنهم يؤمنون الحدود من أجله.

 

فمن العار أن يخرج مجلس تشريعي كمجلس الشورى ومجلس الشعب المصري والأزهر ليبرروا بناء الجدار الفولاذي بأنه حق مصر لتأمين حدودها.. تأمين حدودها ضد من؟ ضد اليهود الذين ما حلوا في مكان إلا وعمّ الفساد والتخريب، أو يؤمنوه من شعب أعزل هو في الأساس أبناؤنا وبناتنا وذوونا.

 

فشعب غزة بل شعب فلسطين يعتبر قطعةً من شعب مصر للقواسم المشتركة بين الشعبين، وما يهم الشعب الفلسطيني يهم الشعب المصري، بالإضافة للمكانة القدسية التي تحتلها فلسطين في قلب الشعب المصري، وغزة خاصة كانت في يوم من الأيام تابعة إداريًّا لمصر فكان الشعبان ملتحمين بالمصاهرة والتعاون الاقتصادي وغيرها، بالإضافة أن كثيرًا من دماء الشباب المصري أريقت على أرض فلسطين في حرب 1948م، وغيرها فهذا دليل على تلاحم الشعبين، بالإضافة إلى أن أمن مصر مرتبط بأمن فلسطين لأنها على الجوار.

 

لكن ما تقوم به الحكومة المصرية- والتي لا يوافقها عليه الشعب المصري كله- ينافي كل معاني الإنسانية، بل كل معاني الأخوة المشتركة بين الشعب، ولا أجد تفسيرًا لذلك أن النظام أصبح ينفذ أجندة صهيونية لإحكام القبضة على شعب غزة؛ من أجل القضاء على المقاومة أو الصمود الشعبي، والذي لا يصب إلا في مصلحة العدو الصهيوني، بالإضافة إلى أن النظام المصري لا يريد على الحدود دولة يحكمها نظام إسلامي مثل حركة المقاومة حماس، خوفًا على نفسه من أن يطالبه الشعب المصري بخوض التجربة الديمقراطية، والتي استطاعت أن تصلح أشياء كثيرة، خاصة أنها جاءت من خلال انتخابات نزيه لم يشهد مثلها العالم، فالنظام المصري يخشى على مصلحته الشخصية وعلاقاته مع أمريكا و"إسرائيل"، ولو كان ذلك على حساب الشعب المصري أو الفلسطيني.

 

والسؤال الآن؟

ماذا أضر أمن مصر منذ جاءت حماس للسلطة، على العكس لم يضر بالأمن القومي المصري، ولم تهن السيادة المصرية لحظة واحدة، بل على العكس نحن في مصر نعتبر حماس وشعب غزة درعًا واقية بيننا وبين "إسرائيل"، فهذا يدفعنا في مصر للالتفات إلى الإصلاح الداخلي ما دامت الحدود مؤمنة، خاصة أنهم أشقاء وليسوا أعداء كاليهود الذين قتلوا أبناءنا في عام 1956، 1967م، وكل يوم يشهد قتل جندي من قبل اليهود.

 

فالجدار لا يخدم الأمن القومي المصري بقدر ما يخدم "إسرائيل" لتضييق الخناق أكثر على شعب غزة والمقاومة حتى يرضخ وتتحقق الأهداف التي وضعتها "إسرائيل" في حرب يناير 2009م، وهي إسقاط المقاومة، والقضاء على الصواريخ التي ترعب اليهود، وإذلال الشعب الغزاوي.

 

فأين المروءة إذًا؟!!!!!

هل ضاعت المروءة من بيننا؟ هل أصبحنا لا نعرف معنى نصرة الغير المظلوم الضعيف، لقد حثنا الله على نصرة الكافر المفزوع إذا طلب منا النصرة على حساب كافر آخر- وليس على حساب مسلم- أو طلب الأمن ليبلغ مأمنه، فقال تعالى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)﴾ (التوبة)، فما بالنا بمسلمين عزل لا يريدون سوى الحياة؟

 

أين المروءة من موقف شيخ الأزهر ومجلس الشورى ومجلس الشعب والنظام وكل من يسيرون في ركابهم من موقف أبي جهل حينما لطم أسماء بنت أبي بكر ليلة هجرة رسول الله صلى الله عليها وسلم، وعندما سال منها الدم قال لها: "اكتمي عني هذا حتى لا يتحدث العرب أن عمرو بن هشام يلطم امرأة"، وهذا أعتى عتاة الكفر فما بالنا بأكبر رأس في الإسلام وهو شيخ الأزهر الذي يحاول إيجاد مبرر ليقتل به مسلمًا وطفلاً محاصرًا وشيخًا قعيدًا؟

 

أين نحن من كفار أفزعهم ما يحدث لرجل على غير دينهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم حينما حبس في شِعب أبي طالب وأهله، فتحركت مروءتهم ونقضوا معاهدة شعروا بظلمها على ذويهم حتى إن أبا جهل قال: إن هذا أمر دبر بليل، لقد قام هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية المخزومي، والمطعم بن عدي، وزمعة بن المطلب بن أسد، والبختري بن هشام، واتفقوا أن يفدوا إلى أنديتهم، ويعلنوا رفض المقاطعة، وإنهاء الحصار.

 

هذا موقف أناس كانوا كافرين مع أقرانهم في الإنسانية؛ فما بالنا ما يحدث الآن لأهل غزة من أناس هم من بني جلدتهم وديانتهم، والذين يبنون جدارًا ليتجرع الشعب الغزاوي الموت البطيء في سبيل حياة هؤلاء السادة والقادة ومن خلفهم يهود لا يريدون الحياة لأحد، وصدق من قال "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

----------------------

* [email protected]