يهلُّ علينا رمضان بنفحات إيمانية وكرامات ربانية، فيتغيَّر حال الناس من حال أهل النار إلى حال أهل الجنان، فترى المتكاسل عن الصلاة يسعى إلى المساجد، فتمتلئ بالمصلين رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، والذي هجر القرآن الكريم يسارع إليه، بل يتنافس مع غيره في تلاوته طوال الشهر؛ حتى تسمع في كل مكان أزيز القراء، في المواصلات، ومكاتب العمل، وفي البيوت، ومساجد الرحمن، ومن نسي الذكر يأتيه رمضان؛ فإذا هو كثير الذكر والتسبيح والاستغفار والتوبة والإنابة والحمد؛ حتى تتغير الوجوه، وتنضر بذكر الله..

 

هكذا رمضان، يحيي القلوب والنفوس، ويتغير الناس من حال النوم والركود إلى حال اليقظة والحركة، فتعمُّ البركة، وتزكو النفوس، ويكثر الخير؛ ذلك أنَّ الله قد فضَّل الشهر الكريم بفضائل كثيرة عن غيره، وميَّز الأمة الإسلامية عن غيرها بهذا الشهر.

 

فضائل الشهر الكريم

فهو شهر القرآن.. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين" (متفق عليه)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (رواه مسلم).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (رواه البخاري).

 

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه؛ ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال فيشفعان" (رواه أحمد والطبراني في الكبير).

 

كل هذا تستفيد منه الأمة، ويستفيد منه الجميع، وأكبر فائدة التي تتدرَّب عليها الأمة من الشهر الكريم؛ هو عملية التغيير، وهذا التغيير الذي يحدث في رمضان يجب أن يكون على ثلاثة محاور.

 

محور النفس

بالتوبة إلى الله عز وجل من المعاصي، كبيرها وصغيرها، ومنها محاسبة النفس على ما قدمت، مع تجنب جوانب التقصير، والعزم على أن يكون هذا العام أفضل مما سبق، فيزيد في عبادته وتلاوته للقرآن الكريم، ويحسن له أخذ العزيمة من أول يوم حتى نهاية الشهر، وهذا تدريبٌ للنفس على النظام والإقبال على الطاعة والعمل الصالح، وكل المعينات تساعد على ذلك، وليس لأحد حجة في تأخره عن ركب التغيير النفسي؛ الذي هو أول مراتب الجهاد، فإن استطاع أن يقودها فهو على غيرها أقدر، ثم بعد ذلك التسامح والتصالح والغفران مع من حولي، بدايةً من الزوج والأولاد وأهل الزوج والجيران وزملاء العمل وكل من حولي؛ حتى أقبل على العبادة في الشهر المبارك بنفس صافية خالية من أية شحناء لأحد، وبهذا نحقق فينا صفات الفرد المسلم؛ الذي هو أول لبنة في البناء.

 

محور البيت والأولاد

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته.." فمن خلال الاجتماع العائلي الذي تستعيد فيه الأسرة أركانها من دور للأب والأم والأولاد يتم وضع برنامج لكل يوم من أيام رمضان، يتناسب مع حال كل أسرة، والحد الأدنى أن يكون لكل يوم شعارًا؛ آية أو حديث أو حكمة.. إلخ، وتعلق في مكان أو تكتب على السبورة؛ بحيث ينشغل الجميع في المفيد النافع والبعد عن التلفاز الضار، وكذلك الاتفاق على الأوراد القرآنية؛ ورد حفظ، وورد تلاوة، وورد تدبر، وورد قراءة؛ حتى تكون بيوتنا قبلةً، ونكون قد حقَّقنا البيت المسلم.

 

محور المجتمع

رمضان فرصة للدعاة والمصلحين ومحبي الخير للناس؛ لأن النفوس مقبلة بطبيعتها على الطاعة والعبادة وفعل الخيرات، فنسعى إلى دوام ربط الناس بالمساجد، رجالاً ونساءً، بل يمكن أن يكون لنا برنامج مع الحي أو سكان الشارع أو العمارة الواحدة، كأن يكون هناك شيء يربطهم، من مسابقة أو إفطار جماعي، لا سيما أن كثيرًا من الناس يفعلون ذلك، ولكن الأمر يحتاج إلى تفعيل هادف لهذه الأعمال العشوائية، ويتمُّ توجيهها إلى التغيير الذي أحدثه الشهر الكريم في نفوس الناس.

 

شهر رمضان شهر التسامح والغفران؛ لهذا وجب علينا أن ننشر بين الناس هذه القيم، من صلة الأرحام والصدقات والزكاة والقيم المجتمعية الفاضلة التي سعى أعداؤنا إلى أن يهدموها في مجتمعاتنا؛ لأنها تميز المجتمع الإسلامي من غيره من المجتمعات، وهذا واجبٌ على الدعاة حتى يصبح المجتمع مسلمًا فتخرج منه الحكومة التي تحكم بشرع ربنا عزَّ وجلَّ.

 

فالتغيير لا يكون في العبادات فقط، ولكن في العبادات والمعاملات والعادات الاجتماعية، وهذا هو الهدف المرجو من الصيام، فليس الامتناع عن الأكل والشراب فحسب، لكنها الأخلاق والقيم.

 

يجب علينا أن نستفيد بما يحدثه شهر رمضان المبارك من تغيير في نفوس الناس، ونحمل المجتمع على الإقبال بإيجابية نحو حملة التوقيعات على بيان "معًا سنغيِّر"؛ الذي توافقت عليه القوى السياسية في مصر، ويتحرك بها شباب مصر الأعزاء الآن، وأن نستشعر أنها قربة وعبادة إلى الله في رمضان؛ حتى تتغيَّر نفوس الناس من السلبية إلى الإيجابية، ومن الخوف والجبن إلى الشجاعة والإقدام، فالناس مهيئون في شهر رمضان، ووجب على الدعاة الانطلاق وعدم تضييع الوقت.

 

ألا فاغتنموا فضل ربكم ذي الجود والإحسان، وتعرَّضوا لنفحاته في أوقات شهركم الحسان، وافتحوا فيه بيوتكم لإطعام الجائعين ومواساة المنكوبين، واعطفوا على أقاربكم، واحذروا أن تمحقوا صومكم بالفسوق والعصيان، والكذب والغيبة وقول الزور والبهتان، وأكثِروا من التسبيح والأذكار وتلاوة القرآن، واحملوا مجتمعكم على الشجاعة والإقدام تدخلوا الجنة بسلام.

نسأل الله العون والتوفيق للوصول إلى مرضاته ونيل درجاته.