تخيلتُ لو أنَّ ممثلاً مثل أنطوني كوين، دُعِيَ للمشاركة بدورٍ بارزٍ في مسلسل "الجماعة"، ففعل مثل ما فعل في فيلم "عمر المختار"، وبدأ بدراسة الشخصيات التاريخية، والبيئة المحيطة، وحرص على التحقق من الروايات، ومقابلة أصحاب الشأن، والاحتكاك مع الشخصيات المعاصرة، وإتمام الاستيعاب للشخصية التي يُمثلها؛ ليعرضها في أقرب صورةٍ للحقيقة دون تحريفٍ أو تزييف، وهذا ما حدث فعلاً في دور عمر المختار، الذي سلَّم له الملايين بالمصداقية والانبهار، ولا يزال المشاهد يعاود كل حين رؤيته دون مللٍ من التكرار.

 

وقد أظهر هذا الفيلم ملامح البطولة والجهاد والعزة في حياة عمر المختار لتكون قدوةً للأجيال، ولا يزال الأطفال قبل الكبار يذكرون مِن هذا الفيلم مشاهد مؤثرة بعينها، ومنها التحية العسكرية التي يؤديها القائد الإيطالي للمجاهد عمر المختار قبل تطبيق حكم الإعدام عليه، تلك اللقطة التي أدمعت عيون الملايين من البشر؛ لأنها اختصرت في براعة وعبقرية كثيرًا من المعاني الجميلة الصادقة، منها تضحية هذا المجاهد بنفسه رخيصةً في سبيل الله وفي سبيل إعزاز وطنه، ومنها احترام هذا القائد الإيطالي لشخص وفكر عمر المختار، وأنه فخورٌ بما قدَّم عمر المختار لوطنه وشعبه، وأن الشعب الإيطالي غير راضٍ عن تلك النهاية الظالمة للمجاهد النبيل.

 

وقد كان في إمكان أنطوني كوين أن يقوم بتمثيل هذه الشخصية على نحوٍ يُرضي الكثيرين من الغربيين المتربصين بالإسلام، ويُرضي أعوانهم في ديارنا، ولكنه لم يقبل إلا أن يكون دوره خادمًا للحقيقة، التي بحث عنها وتحرَّى تقديمها، فلم يقبل مثلاً أن يُصوِّرَ الروح الإسلامية في نفس عمر المختار، وتدريسه للقرآن في الكتاتيب للصغار والكبار، ثم الجهاد ضد الطليان، ورفضه الاستسلام مع الخونة من بني جنسه، لم يقبل أن يصور هذا إدخالاً للدين في السياسة أو إدخالاً للسياسة في الدين، تلك الفرية التي أطلقها المستعمر المحتل لينزع المقاومة من الإسلام، ورددها الحاكم الظالم لينزع النصيحة وقول الحق من الإسلام، فيظل الإسلام بعد ذلك منزوع الدسم، منزوع الشوكة، يَرضى بالهوان، لا يقاوم محتلاً، ولا يعارض ظالمًا، ولا ينصح مُعوجًًّا، وإنما يكتفي ببعض الشعائر، فيَرضى عنه المحتل الغاصب والمستبد الظالم، لم يشأ أنطوني كوين أن يزيّف ما فهمه من بواعث عمر المختار في جهاده، من أنه يتبع الإسلام الذي فيه حفظٌ للقرآن، وفيه جهادٌ للأعداء، وفيه رفضٌ للظلم سواء بسواء، وليس فيه هذه المسميات الحديثة من فصلٍ للدين عن الدولة، أو الدعوى عن السياسي، هذه المسميات التي أطلقها قليلٌ من الخبثاء، وللأسف رددها دون قصد كثير من الطيبين، ولم يقبل أن يصور بسالة المجاهدين حول عمر المختار أنها لمجرد السمع والطاعة العمياء لعمر المختار، أو يصور عمر المختار نفسه عبقريًّا لا ربانيًّا.

 

لم يقبل الممثل الأجنبي أن يصور عمر المختار انتهازيًّا يجاهد الطليان من أجل ولاءٍ للإنجليز أو الفرنسيين، أو يقابل وفد الخونة الذين عرضوا عليه الاستسلام، من أجل مفاوضتهم لمصلحة خاصة، أو يعارض المَلِك بُغيةَ أن تكون له زعامة أو وجاهة، لم يقبل الممثل الأجنبي أيًّا من هذه الأباطيل، رغم كونها ممكنةً ويسيرةً بقليل من القص واللصق والتحوير والتغيير في بعض المشاهد، لم يقبل إلا أن يعرض الحقيقة كما تفاعلت مع وجدانه، فخرج الفيلم متفاعلاً مع وجدانات الملايين من المشاهدين.

 

ولو رجعنا إلى الأسماء الكبيرة من الممثلين في مسلسل "الجماعة"، وعندهم من الإمكانيات الفنية ومن الرصيد عند الجماهير ما عندهم، فيعزُّ علينا أن يقبلوا بتمثيل هذا الزيف الواضح للعيان، ولو أنهم يمثلون فيلمًا خياليًّا لقبلنا منهم أي تغيير أو تحوير في الأحداث، ولكن لماذا فاتهم- وهم يقومون بتمثيل مسلسل واقعي يحكي فترةً مهمةً في تاريخ مصر- أن يرجعوا إلى الحقائق من مصادرها ومن أصحابها وبعضهم على قيد الحياة. ولكن.. لله الأمر من قبل و من بعد، إننا في المباريات المهمة نستدعي حكَمًا أجنبيًّا، فيبدو أننا أيضًا في المسلسلات المهمة يجب أن نستدعيَ ممثلاً أجنبيًّا، لا يقبل أن يؤدي دوره متأثرًا بأوامر أجهزة أمن الدولة، أو متحيزًا لطرفٍ معين قبيل الانتخابات العامة.

-------------

* [email protected]