قد تُساق المادة العلمية خالصة، دون أن يكون لها نصيب من الفن، وقد تُساق ممزوجة بالفن، ولكلٍّ مجاله المناسب.

 

وفي السطور الآتية نقف أمام المادة العلمية، وحظها من الفن:

1- في اختيار المادة العلمية يجب أن يتوفر في هذه المادة الصفات الآتية:

أ- الصحة، والبعد عن التناقض، والاتفاق مع حقائق الحياة.

ب- الطرافة الجذابة، بشرط ألا تجور على الجانب الفكري والخلقي.

 

وكل ذلك وأكثر منه مطلوب توفره في المادة التاريخية:

أ- فيجب أن تكون صحيحة سليمة، تمثِّل الواقع، ولا تجنح إلى الخيال، والاختراع، أي يجب أن تكون تمثيلاً صادقًا: لواقع الحياة، والشخصيات (المحورية والثانوية)، والزمان، والمكان، فغزوة بدر كانت نصرًا مؤزرًا مبينًا، ولا تقبل أن نحوِّلها إلى غزوة مضادة، وأبو لؤلؤة المجوسي هو قاتل عمر رضي الله عنه دون تغيير أو تبديل، وعبد الرحمن بن ملجم هو قاتل علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- كل أولئك حقائق ثابتة لا تحتمل تغييرًا أو تبديلاً.

ب- يجب ألا تصطدم بعقيدتنا، ومعطيات ديننا، وتراثنا الأخلاقي.

ج- يجب أن تلتزم في الأداء التعبيري ما يسميه النقاد "الواقعية اللغوية"، فإذا كان هناك عبارات تجري على ألسنة الشخصيات، وجب أن تمثل طبيعة اللغة في زمان الوقعة ومكانها، فالنقاد يرفضون استعمال كلمة ككلمة "الشعب" إذا أوردها الكاتب في وقائع عصور قديمة؛ لأن هذه الكلمة من الكلمات المستحدثة.

د- يجب أن تكون اللغة معبرًا صادقًا عن واقع الشخصية وحظها من الثقافة، ومركزها الاجتماعي.

 

كما أخذوا على أحمد شوقي في روايته مصرع "كليوباترا" قوله على لسان الملكة "كاهنَ المُلكِ.. سادتي.. هل سمعتم رنة الصوت في جوانب قصري؟"، فمخاطبة الرعايا بـ"سادتي" لا يليق بملكة أو حاكم.

 

2- ومن الممكن "تقصيص المادة التاريخية"، أي عرض الحقائق التاريخية من خلال قصة أو رواية قد تحقق التسلية والتسرية، وحتى على هذا الاعتبار يجب مراعاة القواعد الفنية والموضوعية الآتية:

* لا مانع من اختراع شخصيات ثانوية لا وجود لها في تاريخنا، ولكن يجب أن تمثل طبيعة الزمن والبيئة.

* يجب عدم المساس بالشخصية المحورية، أي الرئيسية، بملامحها المادية، والنفسية، ونفس الحكم يصدق على الوقائع التاريخية، فلا نحول في الرواية وقعة تاريخية بالنصر إلى الهزيمة، أي يجب أن يتفق المنطق الروائي مع المنطق التاريخي.

 

لذلك نأخذ على أحمد شوقي أنه حوَّل كليوباترا من ملكة متهتكة بنت هوى، إلى ملكة مخلصة حريصة على مصلحة الشعب المصري.

 

ونسجل مآخذ متعددة على تمثيلية عرضت من ربع قرن في التلفاز المصري عن "أبي ذر الغفاري"، وكان من شخصياتها عبد الله بن مسعود، واختاروا لتمثيله عملاقًا طويلاً هو "عزت العلايلي"، مع أن ابن مسعود كان قصير القامة جدًّا، كما وردت على ألسنة الشخصيات عدة مرات كلمة "الثورة" مع أنها كلمة مستحدثة، لم تستعمل في العصر الذي تناول الكاتب فترة منه، وبذلك تناقض المنطقان: المنطق الروائي، والمنطق التاريخي.

 

وإذا أردنا أن نفهم ملامح شخصية الإمام حسن البنا- رحمه الله- علينا أن نفهمها من خلال علائقه المختلفة بالأقباط:

لقد كان حسن البنا- رحمه الله- والإخوان المسلمون منذ البداية مثالاً حيًّا للتسامح الديني, والبعد عن التعصب الأعمى, وكانوا ينظرون إلى الأقباط- بصفة خاصة- على أنهم إخوة في الوطن، وأنهم أصحاب كتاب منزل من عند الله, والمسلم مطالب- حتى يكون مسلمًا حقًّا- أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقد دأب الإمام الشهيد على غرس هذه المعاني والقيم في نفوس الإخوان وذلك في رسائله, وخطبه, ومحاضراته.. والواقع خير شاهد.

 

كان هذا هو التوجيه الإسلامي في التعامل مع ذوي الأديان الأخرى, وكان الإمام البنا- رحمه الله- يعرض هذا التوجيه ويلح عليه كثيرًا, ويواجه به كل من يتهم الإسلام بالتعصب.

 

قد يقول بعضهم: ما أكثر الكلمات والمبادئ, وما أقل العمل والتطبيق!! ولكن الواقع التاريخي يورد من المواقف والأحداث والوقائع ما يقطع بأن الإمام حسن البنا والإخوان المسلمين عاشوا على المودة والتسامح وحسن المعاملة مع المواطنين الأقباط الذين عاشوا يبادلون المرشد والإخوان نفس الشعور, على الرغم من محاولة المغرضين والنوايا السيئة تعكير الصفو, وإفساد هذه العلائق الطيبة.

 

ونورد في السطور الآتية بعض الوقائع شاهدًا على صدق هذا الحكم:

- في الإسماعيلية:

1- أراد بعضهم أن يحدث فتنة بين الإخوان والمسيحيين في مطلع الدعوة- والإمام البنا مدرس في الإسماعيلية- فكتب عريضة بتوقيع "مسيحي", ذكر فيها أن "المدرس المسلم المتعصب" حسن البنا يرأس جماعة متعصبة اسمها "الإخوان المسلمون"، وأنه يهين ويضطهد التلاميذ المسيحيين, ويفضل التلاميذ المسلمين عليهم، وطالب كاتب العريضة المسئولين بنقل هذا المدرس المتعصب بعيدًا عن الإسماعيلية حتى لا تكون فتنةً، وحولت هذه العريضة إلى ناظر المدرسة, فاستاء المسيحيون منها جدًّا, وجاء وفد منهم إلى المدرسة معلنًا استنكاره, وعلى رأس هذا الوفد راعي الكنيسة الأرثوذكسية، وكتب كثير من أعيان الأقباط, وكذلك الكنيسة "بختمها", وتوقيع راعيها؛ عرائض وخطابات استنكار، وأرفقها الناظر بتقريره الذي ختمه بقوله: "أرجو وزارة المعارف ألا ترهقنا بمثل هذه المجهولات, وأن تحقِّق فيها بمعرفتها, بعد أن ثبت أنها جميعًا أمور كيدية لا يراد من ورائها خير".

 

2- وحينما نقل حسن البنا سنة 1941م إلى "قنا" بصعيد مصر نتيجة ضغط الإنجليز على حسين سري باشا "رئيس الوزراء" تسابق كثير من المنافقين ودعاة الفتنة إلى نشر شائعة بين الأقباط في قنا، تصور حسن البنا والإخوان المسلمين مبغضين للأقباط عاملين على الإضرار بهم، فكيف قضى الإمام البنا على هذه الفرية؟!.

 

3- وحينما رشَّح نفسه في الانتخابات النيابية سنة 1944م في عهد وزارة أحمد ماهر باشا عن دائرة الإسماعيلية كان وكيله في لجنة "الطور" التابعة لدائرة الإسماعيلية يونانيًّا مسيحيًّا متمصًرا يدعى "الخواجة باولو خريستو".

 

4- وكان المسيحيون- على مستوى مصر كلها- يشعرون بروح الود والسماحة المتبادلة بينهم وبين الإخوان, وخصوصًا في المناسبات الدينية، وحرص الإخوان على أن ينشروا في صحفهم أخبار هذه الزيارات، ومثال ذلك الخبر التالي المنشور في صحيفة الإخوان بتاريخ 10/11/1946م.

 

"زار نيافة مطران الشرقية والمحافظات دار الإخوان المسلمين بالزقازيق يوم عيد الأضحى (سنة 1365م) للتهنئة بالعيد, وأذاع نيافته نشرة مطولة بعنوان "هدية العيد" تدور حول معني (الاتحاد رمز الانتصار), وقال في آخرها: أشكر جمعية الإخوان لأنهم إخوان في الشعور, إخوان في التضامن, إخوان في العمل".

 

ولكن الحق والحقيقة يُصدمان بمسلسل ساقط اسمه "الجماعة"، شوه فيه المؤلف وحيد حامد جماعة الإخوان: مرشدًا، وأعضاء، ومعطيات على النحو التالي:

1- استغل الرجل ما يقع على الإخوان من ظلم فادح، ومحاكمات غير عادلة أمام القضاء العسكري.

 

2- ولعب عنصر الزمن دورًا بارزًا في تشويهاته بعد أن رأى ما تحرزه جماعة الإخوان من انتصارات، فقد تطورت من جمعية.. إلى جماعة.. إلى تيار له مكانته العظمى في العالم، فللإخوان مكانة عظمى في أكثر من 80 دولةً.

 

3- وجعل من الإمام الشهيد شخصية سيكيوباتية مدمرة.

 

4- وأسقط من المسلسل حلقتين مهمتين هما: الحلقة "29" التي تمثل مشهد اغتيال الإمام البنا الذي زوره وحيد حامد.

 

5- والحلقة "30" التي تمثل جنازته، فقد تقدم الجثمان في الطريق تحمله زوجته وبناته، وخلفه فقط والده، ومن تجرأ على السير في الجنازة كان المعتقل مآله، وتصل الجنازة إلى المسجد للصلاة على الفقيد، فإذا به خاليًا حتى من خدمه، فيصلي الوالد ومن خلفه أهل البيت من النساء، ويقومون بإنزاله إلى قبره، ويعود الجميع إلى البيت في حراسة مشددة، هذه هي جنازة الإمام الشهيد "حسن البَنَّا"، ويتم إلقاء القبض على كثير من الجيران، لا لشيء إلا لمجرد كلمة عزاء قالوها لهذه الأسرة، ويستمر الحصار ليس على البيت خشية ثورة من يأتي للعزاء، ولكن أيضًا يستمر الحصار حول القبر، خشية أن يأتي من يُخرج الجثة ويفضح الجريمة، بل وانتشرت قوات الشرطة في المساجد؛ لتأمر بغلقها عقب كل صلاة، خشية أن يتجرأ أحد بالصلاة على الفقيد.

 

6- وفي الحلقة التي استضاف فيها عمرو الليثي المؤلف وحيد حامد (برنامج واحد من الناس) في قناة (دريم 2) مساء الخميس 16/9/2010م، وأعادها في اليوم التالي.. رأينا وحيد حامد يقع في الأخطاء والتزييفات الآتية:

أ- نفى أن يكون زمان عرض هذا المسلسل يهدف إلى إساءة صورة الإخوان قبل انتخاب مجلس الشعب، واختيار رئيس الجمهورية، معللاً زمن الاختيار تعليلاً غريبًا ساذجًا، وهو أن "كل المسلسلات تُذاع في رمضان"، مع أن هناك مسلسلات تُعرض قبل رمضان على مدار العام كله؛ وهو بهذا الادعاء يحاول أن يبرِّئ الأمن من فرض الميعاد عليه، بـ"إصراره" على أنه في هذا المسلسل اعتمد على مراجع وكتب ووثائق.. هكذا بإطلاق، وكأن مراجعه كتب سماوية نزلت عليه؛ فمن المراجع ما هو ساقط لا يستحق أن يأخذ به عاقل منصف: ومن هذه الكتب كتاب "الإخوان وأنا" للواء فؤاد علام، 570 صفحة وكله- من أوله وآخره- أكاذيب لا تقف على قدمين، ويكفي أن تقرأ فيه العناوين الآتية:

- عاش البنا على أمل أن يصبح خليفةً للمسلمين ولكن حلمه لم يتحقق.

- عشق الزعامة والسلطة وسعى إليهما مهما كان الثمن.

- كان قصير القامة خفيف الخطى قادرًا على الاستحواذ على مستمعيه.

- أحمد السكري أسس جماعة الإخوان والبنا سرقها منه.

- الإخوان وحرب فلسطين من الأكاذيب الكبرى التي اخترعها حسن البنا والذين معه، ونسجوا قصص بطولات تتحدث عن تضحياتهم وشهدائهم والدماء التي أُريقت على أرض فلسطين الحبيبة، وصوروا البسطاء على أنهم هم الذين خاضوا جميع المعارك على تلك الأرض المقدسة.. ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا: لم يقدموا شهيدًا.. ولم يطلقوا رصاصة.. ولم يريقوا قطرة دم واحدة.. ولم يستطع واحد منهم أن يقدم أي دليل على صدق ما يقول إلا العبارات الإنشائية، والجمل المطاطة، وكلام الوعظ والإرشاد، والدعوة للجهاد بالكلام فقط.

 

وهذا الكتاب الذي كتبه خبير التعذيب فؤاد علام المتهم بقتل كمال السنانيري وغيره، رددنا عليه من قبل في مقالات متعددة؛ غير أن من يقرأ هذا الكتاب يعتقد أن وحيد حامد اتخذ منه أهم مرجع من مراجعه.

 

7- ومن عجب أنه يعتبر اعتراض الإخوان على مسلسله التشويهي دليلاً على كراهيتهم للديمقراطية والحرية؛ كأن هذه القيم لم تخلق إلا للدفاع عن تشويهات وحيد حامد وسقطاته.

 

ولكننا نقول في النهاية: إن هذا المسلسل التشويهي كان خير دعاية لجماعة الإخوان المسلمين؛ فبيعت كل المطبوعات التي تتحدث عن الجماعة، وفكرها، وصدق الأستاذ فهمي هويدي فيما قال يوم 13/9/2010م بجريدة (الشروق): "من ناحية لأنه أعاد اسم الجماعة إلى الضوء، ليهدم الجهد الذي بذلته وزارة الداخلية طوال السنوات الأخيرة، حين أصدرت تعليماتها لكل من يهمه الأمر بالكف عن ذكر اسم الإخوان والاكتفاء باستخدام مصطلح "المحظورة" في الإشارة إليهم؛ حتى إنها وجهت عتابًا للمجلس القومي لحقوق الإنسان؛ لأنه تجرأ وذكر اسم الإخوان المسلمين صراحة في أحد تقاريره قبل سنتين ولم يلتزم بالتوجيه، إلا أن المسلسل جاء ليجعل الاسم على كل لسان، ويحوّل أفكار الإخوان إلى موضوع للمناقشة في كل منتدى وصحيفة، ولم يكن ذلك المكسب الوحيد للجماعة؛ لأن الدراما أوصلت إلى المشاهد العادي خطابًا ومفردات للإخوان لم يكن بوسعهم أن يصلوا إليها في ظل الأوضاع التي أحاطت بهم خلال نصف القرن الأخير، إذ أقنعه بأنهم في الأصل دعاة إلى الله وإن كانوا قد ارتكبوا أخطاء في الوسائل التي استخدموها لبلوغ ذلك الهدف، والإقبال الذي حدث على كتب الإخوان، وتلك التي صدرت عن بعض قياداتهم، خاصةً رسائل الأستاذ البنا وكتابه مذكرات الدعوة والداعية، وغيرها من المذكرات من القرائن التي تدل على أن المسلسل جذب كثيرين، وأثار فضولهم، ودفعهم إلى تحري الحقيقة في شأن الوقائع والأحداث التي عرضها، وربما شجَّعهم على ذلك أن المسلسل منذ بداياته أثار شكوكًا قوية في رسالته، وأعطى انطباعًا بأنه عمل سياسي أكثر منه عمل فني، وأن الجهد الأمني فيه أكبر من الجهد الثقافي والإبداعي، حين يحقِّق الإخوان هذه المكاسب في ظل الظروف الراهنة غير المواتية لهم، فإن ذلك يفترض أن يكون سببًا لارتياحهم وليس غضبهم، ولذلك لم أفهم التصريحات الانفعالية التي صدرت عن بعض قياداتهم بخصوص الموضوع.

 

إن مشكلة المسلسل أنه لم يتعامل مع الإخوان كجزء من الحركة الوطنية، وكفصيل شارك في العمل العام فأصاب وأخطأ ونجح وأخفق؛ ولكن هاجس الشيطنة الذي ظل يطل منه طول الوقت أفقده صدقيته ورصانته، ورغم أن مؤلفه أشار إلى قائمة طويلة من المراجع موحيًا بأنه استند إليها، إلا أن المدقق في حلقات المسلسل يكتشف أن 80٪ على الأقل من معلوماته مستقاة من كتاب واحد لأحد غلاة الشيوعيين من خصوم الإخوان الألداء، وهناك أكثر من مرجع محترم أورده في القائمة، إلا أنه اكتفى بذكر عناوينها وتجاهل تمامًا مضمونها.

 

بدلاً من التورط في إنتاج فيلم مضاد، ليت الإخوان يقدِّمون لنا دراسة نقدية هادئة للمسلسل تصحح ما قدمه من معلومات، سواء ما تعلق منها بفكرة الجهاز الخاص الذي كان من تقاليد الجماعات السياسية المناهضة للاحتلال الإنجليزي في الأربعينيات، أو بالموقف من الأحزاب أو بالعلاقة مع الأقباط الذين شارك اثنان منهم في اللجنة السياسية للجماعة أيام الأستاذ البنا، ولهم أيضًا أن ينبهوا إلى الجوانب التي تجاهلها المسلسل في سياق التزامه بنهج "الشيطنة"، وفي مقدمتها دورهم في قضية فلسطين، وإسهامهم في الحركة الوطنية المصرية التي ابتدعوا لها "الوِرد الوطني"، وكانت المطالبة بالجلاء على رأس أولوياته، كذلك دورهم في التقريب بين المذاهب الإسلامية.

 

إن حوار الأفكار هو أقصر الطرق لاستجلاء الحقيقة، وللنفاذ إلى عقول الناس وكسب احترامهم".

-------------

[email protected]