كنت أتمنى مشاهدة جميع حلقات مسلسل الجماعة، لا رغبة في معرفة تاريخها فإني أعرف منه ما يكفي للحكم عليها؛ سواء عن طريق القراءة أو عن طريق معاشرة بعض رجالها أو عن طريق سماع بعض الروايات ممن أُتيحت لهم فرصة معاصرة بعض الأحداث أو رؤية ومجالسة الإمام حسن البنا من غير الإخوان المسلمين.. ومن هنا فإن عجبي الشديد من تصوير شخصية حسن البنا في المسلسل، فحسن البنا بكل المقاييس كان زعيمًا، لديه كل مؤهلات الزعامة التي تزيد كثيرًا عن مؤهلات الكثير ممن كان يعاصره من الوزراء ورؤساء الوزارات الذين عاصرهم والذين أظهر المسلسل وحلقاته الأخيرة حسن البنا أمامهم على أنه أقل شخصية، فليس حسن البنا الذي يبكي كالأطفال أمام وزير الداخلية بعد قرار حل الجماعة، ويحاول وزير الداخلية تهدئته ومنعه من البكاء، وليس حسن البٍنا بالشخص التافه الذي يظل يضرب رأسه في المنضدة طوال حلقة كاملة بعد تنفيذ قرار حل الجماعة والقبض على أعضائها، حسن البنا الذي أنشأ جماعة استعصت على القضاء عليها طوال أكثر من 80 عامًا رغم الضربات التي تلقتها، والتي تنهار أمامها الدول، ليس بالشخص العادي أو الضعيف الذي ينهار ويضرب رأسه في المنضدة، كما ظهر في المسلسل.

 

أمر آخر أظهره المسلسل أثار استغرابي واستغراب الكثيرين غيري وهو عدم إظهار نشاط الإخوان وبلائهم في حرب فلسطين، رغم أنه نشاط كفاح لا يستطيع أحد- مهما كان عداؤه لهم- إنكاره، والمسلسل رغم أنه لم يظهر هذا الكفاح حاول أن يشوه صورته بالادعاء على لسان أحد أعضاء الجماعة أن هذا الجهاد ضد اليهود في فلسطين لم يكن نابعًا عن حب الجهاد بل كان نابعًا من محاولة لفت نظر الناس بعيدًا عن حادث مقتل القاضي الخازندار، فأحد أعضاء الجماعة نبه المرشد حسن البنا إلى أن رد الفعل الشعبي ضد مقتل الخازندار يمكن القضاء عليه عن طريق إعلان الجهاد ضد اليهود في فلسطين، وبذلك ينشغل الناس بهذا ويبتعدون عن مناقشة قضية قتل الخازندار، وهذا في الحقيقة ظلم للمجاهدين ما بعده ظلم، وهو على أي حال ظلم دنيوي؛ لأن جزاء المجاهدين المتكفل به الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السرائر ويجازي كل إنسان بقدر نيته.

 

وجهة نظر المباحث العامة أن من قام بتفجيراتٍ المحال اليهودية مثل "هانو" و"صيدناوي" و"عمر أفندي" هم الإخوان انتقامًا من اليهود، وقد قتل فيها الكثير من المصريين، أما وجهة نظر بعض المؤرخين فهي أن من قام بهذه التفجيرات هم "الإسرائيليون"، لأن يهود مصر لم يُقبلوا على الهجرة إلى "إسرائيل" فأراد بعض زعماء "إسرائيل" إرغامهم على ذلك فقاموا بهذه التفجيرات حتى يعطوا اليهود المصريين انطباعًا بأنهم مستهدفون في مصر ويدفعوهم إلى الهجرة إلى "إسرائيل".

 

لا يوجد مصري عاقل يفكر في تفجير هذه الأماكن؛ لأن ذلك يلحق أبلغ الضرر بالاقتصاد المصري والشعب الذي سيكون الضحية الأولى لهذه التفجيرات، سلاح الإخوان لم يكن الهدف منه محاربة الحكومة حتى وإن كانت موالية للاستعمار، كما كان شأن أغلب الحكومات قبل الثورة، ولكن كان يستهدف جهتين: الأولى اليهود في فلسطين، والثانية الإنجليز في القناة، وعدم الاعتراف بذلك كمن ينكر الشمس وقت طلوعها، وبلاء الإخوان في الاثنين يعرفه الجميع وبالتأكيد يعرفه الأستاذ وحيد حامد، ولكن صوّره على أنه محاولة للفت نظر الناس عن الأخطاء التي يرتكبها الإخوان لا حبًّا في الجهاد والتضحية؛ لأن هذا يرفع من شأن الإخوان ويمنع إذاعة المسلسل على القنوات التليفزيونية الحكومية، والكاتب والمنتج في أشد الحاجة لذلك.

 

في وقعة شهدتها بنفسي في السنوات الأولى في عمر الثورة، وكان سني وقتها لا يتعدى الثالثة عشرة، واصطحبني أحد أقاربي لسماع حديث الثلاثاء في المقر العام للإخوان المسلمين، كان المتحدث وقتها الأستاذ سعيد رمضان، وكان- رحمه الله- متحدثًا لبقًا مفوهًا، وكانت الثورة الجزائرية على أشدها، والكفاح المسلح فيها محتدمًا بين الجزائريين والفرنسيين، وفي آخر الخطبة دعا إلى تكوين كتيبة من مائة متطوع للذهاب للقتال في الجزائر، وفور سماع هذا النداء توجه قريبي هذا لقيد اسمه مع المتطوعين، إلا أنه عاد بعد برهة حزينًا لأنه وجد أن قائمة المائة متطوع قد اكتملت، وطُلب منه الانتظار حتى إعداد كتيبة أخرى، طبعًا لو أن أحد رجال المباحث العامة أراد أن يفسر ذلك لٍقال إن الكتيبة في الحقيقة لم تكن للقتال في الجزائر ولكنها كانت لقتال الحكومة المصرية.

 

التاريخ، يا أخي الفاضل الأستاذ وحيد حامد، لا يؤخذ من وجهة نظر واحدة لأن في ذلك الكثير من الظلم لمن تكتب عنه والتاريخ والأعمال التاريخية يجب أن تستقي من مصادر عدة.

 

إذا أخذنا بمعيار أن سلاح الإخوان موجه إلى الحكومة المصرية وليس إلى "إسرائيل" وإنجلترا، فإننا بنفس المعيار سنقول إن سلاح المقاومة الإسلامية حماس موجه إلى الجارة مصر وإلى منظمة التحرير وليس إلى "إسرائيل"، وهذا بالضبط ما تقوله أجهزة الإعلام الحكومية عندنا، كما أن سلاح حزب الله ليس موجهًا إلى "إسرائيل" ولكن للسيطرة على لبنان لحساب إيران، كما أن حماس وحزب الله لم ينتصرا في حربهما على "إسرائيل" نظرًا للدمار الكبير الذي لحق بلبنان وغزة، وينسى هؤلاء أنه لا توجد حرب بلا خسائر بشرية ومادية، وأن العبرة في النهاية بتحقيق أهداف الحرب، وهي بلا شك قد تحققت بدليل التحقيق الذي أجرته "إسرائيل" عقب حربها مع حزب الله وأداء قادة هذه الحرب، كما أن "إسرائيل" في حربها على غزة كان هدفها الأول تحرير الجندي الأسير، وقد فشلت في تحقيق هذا الهدف الصغير.

 

عندما أستعرض تلاميذ حسن البنا لأتعرف على شخصيته ومدى تأثيره، وأعلم أن من بينهم من يعيشون بيننا ونعتز ونتفاخر بهم مثل الشيخ القرضاوي، ونترحم عليهم ونستفيد بعلمهم مثل الشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق والأستاذ سيد قطب، ومن كنا نود أن يكونوا بيننا الآن ليعلمونا كيفية الكفاح والنضال ضد "إسرائيل" مثل الشيخ فرغلي بعبع الإنجليز.. كل هؤلاء وغيرهم كثير من تلاميذ الإمام حسن البنا، لعرفنا مدى قامة وشخصية وعلم هذا الرجل الذي لم يكن ليبكي كالأطفال في حضرة وزير داخلية يستمد مكانته من الكرسي، أو يخبط رأسه على المنضدة كما يفعل المتخلفون، إن كان حسن البنا ساهم في اغتيال الخازندار والنقراشي سواء كان هذا بأمر منه أو بعلمه أو لم يكن، إلا أنني لا أعتقد أنه قال إنه في قابل أيامه سيبتعد عن السياسة لأن الدين الإسلامي دين ودولة وإلا أصبح الإخوان مثلهم مثل الطرق الصوفية لا هم لهم إلا العبادة على الطريقة التي تروق لهم، أو مثل الجماعات السلفية التي تبتعد عن الجهاد، وهذا بالضبط ما تريده النظم الحاكمة في كل البلاد الديكتاتورية حتى تكون في مأمن من منازعتها على السلطة وتستريح الحكومات وتطمئن إلى بقائها أبد الدهر وتسعى في الأرض فسادًا، كما يحدث الآن.

 

لا عيب في السعي إلى السلطة ما دمت تسعى إليها بالطرق الشرعية، وهو ما تفعله المعارضة الآن، ولكن العيب كل العيب في السعي إليها بطرق غير مشروعة، كما يفعل الحزب الوطني اليوم.

 

لا تعجبني فكرة محاربة الأعمال الفنية عن طريق اللجوء إلى المحاكم لعدم جدواها، ولأنها قد تعطي العمل الفني قيمةً ليست له تلفت النظر إليه أكثر، ولكني من أنصار الرد بعمل فني كبير وقيّم يُترك أمر إعداده ليس للإخوان المسلمين ولكن لمؤرخين محايدين حتى لا يكون العمل رد فعل، وأن يراعي الحسنات والسيئات لأنه لا يوجد بشر ليس له أخطاء، فهذا هو الرد الطبيعي على أي عمل فني، وأعتقد أنه في الأعمال الفنية الحسن منها يطرد السيئ كما في العملة، وأذواق الناس وإحساسهم هو الحكم في النهاية وهو حكم لا يخطئ، ومطلوب من الإخوان عدم التعجل سواء في الكتابة أو الإخراج؛ لأن العمل كبير ومنتظروه كثيرون.

-----------------

* (المصري اليوم) في ١٩/٩/٢٠١٠م

-------------

**   [email protected]