كثُر الاجتهاد حول المفاوضات والمصالحة الفلسطينية، فقال البعض: إنهما نقيضان، فالمفاوضات عقوبة لحماس وإثارة لغيرتها بسبب ما تراه فتح من أنها تعيق المصالحة، وأن هذه المفاوضات إثبات لوجود رئيس السلطة وأنها تستعلي بشرعيته على شرعية الدستور الفلسطيني وكأن المفاوضات هي مصدر هذه الشرعية الجديدة وفق مشورة نتيانياهو.

 

وما دامت المفاوضات مكسبًا لرئيس السلطة بقطع النظر عن فرص نجاحها في تحقيق أي كسب للشعب الفلسطيني، فإنها بديل عن المصالحة والسعي إليها، أو السعي إلى المصالحة بمنطق المفاوضات أي على مذهب رئيس السلطة. وقد ألمح الرئيس أوباما وهو يفتتح موسم المفاوضات في واشنطن في الثاني من سبتمبر 2010 إلى مأزق المفاوضات، وهو أنه حتى لو نجحت بمقاييس معينة، فإن رئيس السلطة لا يستطيع فرضها على بقية الشعب الفلسطيني، ناهيك عن أن هذه المفاوضات فهمت على أنها مرادفة لبرنامج تصفية القضية.

 

ذهب الاجتهاد إلى العلاقة بين المصالحة والمفاوضات إلى أن المفاوضات هي البديل لاستحالة المصالحة، إما إمعانًا في إحراج حماس أو عزلها وشغل الساحة بغيرها وادعاء الحديث باسم الشعب المتعطش للسلام، وإما إظهار عجز حماس عن المقاومة أو العمل السياسي، وهو ما تحدث عنه أبو مازن في مناسبات عديدة حتى يظهر "إفلاس" حماس، ولذلك أكد أبو مازن في ذروة الانتشاء بموسم المفاوضات أنه لن يتخلى عن السعي لإنهاء "الانقلاب" في غزة، فشاعت الاتهامات المتبادلة على هامش موسم المفاوضات؛ حيث اتهمت حماس بعمليات في الخليل لمجرد تعويق "المسيرة الناجحة" للمفاوضات؛ وحيث نشرت إسرائيل في ثنايا هذا الانطباع الزائف استطلاعًا من صناعتها للرأي العام الفلسطيني يظهر أن أكثر من 50% من الشعب يؤيدها، حتى تدعم هذه الاستطلاعات موقف أبو مازن بين الفلسطينيين، والصهاينة أول من يعلم سر اللعبة، وترتيبًا على ذلك فإنه كلما طالت المفاوضات تعثّرت المصالحة واتسع الرتق على الراتق، ولكن الواقع يشير إلى محاولات من الطرفين صوب استئناف المصالحة بضغوط عربية أساسًا، هدفها الاستعداد لمواجهة النتائج السلبية للمفاوضات وانهيارها فتكون جهود المصالحة وليست المصالحة ذاتها هي البديل للحركة على المسرح؛ حتى لا يخلو من النصوص والممثلين.

 

وتلاقت الضغوط العربية مع الضغوط الصهيونية بالغارات على غزة والتهديد بالاغتيالات حتى تدفع حماس بقبول ما رفضته، فيعطي ذلك الانطباع بأن المفاوضات هي التي أثمرت في مجال المصالحة، بعد أن أفلست في مجال التفاوض.

 

ولكن الطريف أن الجميع يصرُّ على أن هذه المفاوضات لن تثمر شيئًا، ولكنها صارت مادة جديدة لإثارة أشواق المنطقة إلى السلام العادل وأشواق الشعب الفلسطيني إلى دولة مستقلة حقيقية، وليس دولة ورقية افتراضية في الفضاء الإليكتروني، بل بالغ الرئيس أوباما فسلك طريق سلفه بوش في الوعد بقيام دولة فلسطينية خلال عام، وهو أول مَن يعلم أن هذا مستحيل في ظل سياسة الاستيطان المستمرة وفي ظل تصور نتنياهو للتسوية، ولا يهم بعد ذلك أن يصاب الجميع بالإحباط نتيجة الحمل الكاذب الذي بالغ المحترفون في ترتيب أوضاع ما بعد الوليد؛ حيث وعد أوباما بأن تصبح فلسطين قبل ولادتها عضوًا كامل العضوية في الأمم المتحدة لعل ذلك يعوِّض عن ضياع فلسطين في الواقع ما دام اسمها وعلمها قائمًا بين أعضاء المنظمة الدولية.

 

والحق أن المفاوضات صفحة بيضاء يكتبها من يملك الأوراق ويقبل الضعيف فيها دور الضحية، ولكن لغز هذه المفاوضات يتبَّدى في العديد من المشاهد التي سبق تفصيلها في مناسبة أخرى، وأبرز هذه المشاهد إصرار إسرائيل عليها وإصرارها على استخدامها وتوظيفها بشكل فجِّ، وإصرارها على أن يتم الترخيص عربيًّا وعلنًا لأبي مازن، وغير ذلك من المشاهد اللافتة.

 

والخلاصة هي أنه إذا كانت المفاوضات فاشلة، فإن هذا الفشل يمكن أن يكون تحديًا للمصالحة أو دفعًا لها، وإذا كانت المصالحة كما روّج البعض هي البديل الفلسطيني على استدراج السلطة إلى مأزق المفاوضات اليائسة، فهل تقبل السلطة منطق حماس، أم أن التظاهر بقبول المصالحة دون التدقيق في شروطها السابقة هو جزء من التفاهم يحقق بعض ما يريد بموجبه.

 

المهم في نهاية المطاف، ماذا كسب الشعب الفلسطيني من هذه المناورات في مجال المصالحة ومجال المفاوضة؟

 

الحق بيّن والباطل بيّن، فالذي يتمسك بحقوق الشعب المتآكلة كي تظل حية في ذاكرة الأمة لا يستوي مع من يتفق مع إسرائيل على شراء الوقت في فلسطين الوهمية، ثم يقوم مقابل ذلك بتزييف التاريخ والواقع والذاكرة والهرب بحاضر بائس إلى مستقبل أشد إظلامًا.

 

فهل يؤدي فشل المفاوضات أمام التمسك بالاستيطان إلى مصالحة وعودة الأبناء الضالين لحماية ما تبقى من فلسطين دون شماتة البعض في الآخر، وحتى دون الإعلان عن النهج البديل صراحة وهو المقاومة ودون الإشارة إلى فشل السلطة في رهانها على إسقاط حماس والرهان على الكرم الصهيوني وأريحيته؟.