قبل بداية الثورة المصرية المباركة ظهرت على الساحة تلك الأنشودة الجميلة الحزينة.. "أسيبك لمين؟".. وما بها من كلمات شجن تدمع لها العين لما أصاب تلك الصبية.

 

كان يخاطب مصرنا الحبيبة على أنها تلك الصبية الجميلة التي يملؤها الأمل، وكيف يهاجر ويتركها وحيدة منكسرة؟، هل يهاجر ويترك ذلك الحنين؟، ويتساءل في حسرةٍ مَن سيرد لها التاريخ؟.. مَن يعطيها حياته؟.. مَن سيكون ظلال الغلابة؟.. مَن سيكون تلك الشوكة في حلق الديابة والأعداء؟.

 

وكان هو الحال في الواقع، كانت معانيها رقيقة تصل لكلِّ شاب ضاق به الحال وفكَّر في تركها.. كم من دموعٍ انسابت من هذا الجفاء؟، كم من شابٍ مات غريقًا وراء حلمه وهو يحاول الهجرة حالمًا بمستقبلٍ أفضل؟!.. كم من شابٍ ناجحٍ عنده أمل كبير في أن يكون لبنة أو حتى ذرة رمال في بناء الوطن؟.. كم من شابٍ مجتهد حاصل على أعلى الدرجات العلمية مات محسورًا منتحرًا من تفرقة اجتماعية وأوضاع عفى عليها الزمن، وفي حادثة انتحار خريج العلوم السياسية عبد الحميد شتا خير دليل على ذلك.

 

تساؤلات طالما سألناها لمصلحة مَن يحدث هذا التراجح والانبطاح، هذا الإهمال المتعمد، هذا الفساد الذي انتشر واستشرى في كلِّ مجال، حتى يئس مَن يئس واستبشر من عرف أن بعد الظلام نورًا، وأن بعد العسر يسرًا؟

 

كانت مصر عبر التاريخ هي حائط الصد الذي تحطَّم على أبوابه كلُّ الغزاة، الهكسوس والمغول والصليبيون، وحتى الكيان الصهيوني حديثًا.

 

وحتى إنها لم تتلون بلون محتليها ولم تغير لغتها ودينها، وبدخولها الإسلام نصرته، ونشرته في أنحاء المعمورة حتى بلغ كلَّ الآفاق لما فيها من خير أجناد الأرض.. وكانت هي نبتة الحضارة والعلم والدين والزراعة والصناعة والطب منذ مهد التاريخ.

 

كانت مصر تلك الصبية الجميلة الرقيقة التي تقوم بدورها في خدمة الإنسانية بكلِّ تفانٍ وكرم.

 

كانت مصر قبل حكم العسكر أي قبل 1952م هي الكبيرة العظيمة الرائدة، كانت الأم الحنون على أبنائها.. كانت هي تلك الصبية التي إذا صلح حالها صلح حال جيرانها.. كانت تلك الصبية التي تلمُّ شمل الجميع من حولها.. كانت هي أم الدنيا ونبع الخير للجميع.. كانت هي مَن أهملها وليها غير الأمين الذي باعها بأرخص الأسعار.. باعها لكلِّ مَن يدفع له أكثر.. وفي أحيان أخرى باعها بلاش.. وبلا ثمنٍ.

 

كانت مصر تتحمل ألم غيرها وكان هذا قدرها!، ولكن تلك الصبية بإصابتها بأمراض الشيخوخة المبكرة انكفأت على نفسها، تراجعت وجحدت، انقلب حالها للنقيض (طبعًا بسبب ولي أمرها) أصبحت هي تلك العجوز الشمطاء التي لا يهمها إلا مصلحتها انقلبت وأصبحت تتاجر بكلِّ شيء، تناست دماء شهدائها التي بذلوها من أجل ترابها، تراجعت دوليًّا وإقليميًّا.. عربيًّا وإفريقيًّا، تراجعت بأمر وليها التابع لأسياده تراجعت وبلا عودة.. باعت خيرها لأعدائها، باعت أرضها لكلِّ سمسار خائب.. باعت حتى أولادها.. باعت فأسها الذي نحته فيها الزمن والتاريخ، ضاقت بكلِّ صاحب علم ورأي ونجاح، كانت هي مَن تعطي القمح للعالم، أصبحت هي من أكبر مستوردي القمح في العالم، أصبحت مستوردة لكلِّ شيء ولأي شيء.

 

إلا أن تلك الصبية أبت.. أبت أن تكون جاحدةً، أبت أن تكون أنانية، فكانت تواقةً لدماء أبنائها، دماء تُراق على ترابها، تروي به بطنها لتخرج من أحشائها ذلك الخير الكامن الذي لا ينضب أبدًا؛ لتثبت للعالم أن تلك الصبية تشح قليلاً ولكنها لا تعدم خيرها، تجوع قليلاً ولكنها لا تموت، تدبر وجهها قليلاً لكنها لا تعمى، تتراجع قليلاً لكنها لا تهون.

 

أثبتت تلك الصبية أنها الأم الحنون لكلِّ أبنائها وكلِّ جيرانها، أثبتت أنها تريد فقط مَن يحبها مَن يتيم بها حبًّا وعشقًا، مَن يعطيها أسباب الحياة فتعطيه أسرار الصمود، من يضحي بنفسه وماله ودمه لتخرج له كلَّ نفيس، مَن يخلص لها ويسهر على رفعتها، مَن يحرث ويزرع ويخضر أرضها ويطعم شعبها، مَن يمد لها يده فتمد له عروقها.

 

عندما خرج أبناؤها عراة الصدور أمام رصاص سارقها، خرجوا ليعيدوا لها شبابها الذي شاخ، خرجوا ليعيدوا لتلك الصبية رونقها ودورها وتاريخها ومكانتها الطبيعية بين الأمم، خرج الشباب ليعطوا لها حياتهم، خرج الشباب لينهوا عهد الذل والتبعية والعار، لتبدأ عهد الحرية والكرامة، خرج الشباب ليبدءوا عهد البناء من جديد، خرج الشباب ليعيدوا أمجاد مضت، ليسطروا بمداد من دمائهم أن الظلم مهما طال لن يظل للأبد، خرجوا ليعلنوا للجميع أن هناك مَن يحب تلك الصبية الحنون التي ستحتضنهم حتى تعبر بهم إلى بر الأمان، خرج الشباب ليعلنوا أنه لا هجرةَ بعد اليوم، لا هروب بعد اليوم، لن يكون إلا البناء والعمل، لن نتركها أبداً فهي محفورة في قلوبنا، فهي الصبية الحنون.. مصر العظيمة.