القضاء يعنى الحكم بين الناس بالحق ، وهو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقول ابن حزم ، والمقصود من القضاء هو دفع الفساد، وإقامة العدل ، وإيصال الحقوق لأصحابها.

ولكى يتحقق مقصود القضاء ينبغى أن يستقل القاضى تماما عن أى مؤثرات تنال من حيدته وإنصافه ، أو تبعث على تفضيل أحد الخصمين على الآخر .

حتى إن فقهاءنا عرضوا لتفاصيل فى هذا الشأن ، من ذلك ماورد عنهم : لو أن رجلا خاصم السلطان إلى القاضي فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه، والخصم على الأرض، فقالوا : ينبغي للقاضي أن يقوم من مقامه، ويجلس فيه خصم السلطان، ويقعد هو على الأرض، ثم يقضي بينهما، كي لا يكون مفضلا أحد الخصمين على الآخر.

ويعد اشتغال القاضى بالسياسة ، أو خضوعه لأهواء الساسة مطعنا فى مبدأ استقلال القضاء ، وجرحا فى حيادية القاضى ، لأن تسييس القضاء يعنى الانحراف به عن مسار العدالة ، والانجراف به بعيدا عن النزاهة ، والانجرار من خلاله إلى ظلم الأبرياء ، واستخدامه آلة لذبح الخصوم باسم العدالة ، والخضوع فى أحكامه للأهواء, وتكبيله بالتبعية بعيدا عن الاستقلال ، لترسيخ الفساد ، وتمكين المستبدين ، وإصباغ الشرعية على أوضاع باطلة . ورحم الله حافظ إبراهيم الذى قال :

لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت ... حواشيه حتى بات ظلما منظما .

وأى خلل فى منظومة استقلال القضاء ، أو فى معايير اختيار القضاة ، مثل المحاباة والمحسوبية والمجاملة ، بعيدا عن معيار الكفاءة والأهلية والأمانة ، أى خلل على شاكلة هذا يكرس للفساد ، ويقوض منظومة العدالة ، إذ كيف تنتظر العدالة ممن تسنموا سدة القضاء وهم قد دخلوا إليه من أبواب خلفية ، ودفعوا فى سبيل تقلده الأموال والهدايا ، لم تؤهلهم قدراتهم ولا أمانتهم ولا كفاءتهم له ، بل كانت الوساطة والشفاعة والأموال بريدهم إلى الحاكم ليأذن لهم بالدخول ، ليستكمل بهم نقصا فى الفسدة ، وعجزا فى الأتباع والأذناب ، وثغرة فى زوايا الباطل .

كيف ننتظر العدالة ممن اعتلوا منصة القضاء نفعا لأنفسهم ، ورغبة فى ميزات تميزهم عن الناس ، وطمعا فى مزايا طبية وترفيهية ومعيشية ومالية ؟ إن أمثال هؤلاء من القضاة ، بالشفاعة مجروحون وبالمزايا مطعونون .

وقد قرر الفقهاء أن بذل المال على طلب القضاء محظور في حق الباذل والمبذول له، لما روي أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " لعن الله الراشي والمرتشي ". رواه أحمد والترمذي والحاكم والراشي هو باذل الرشوة ، والمرتشى هو قابلها.

وأخرج الحاكم في المستدرك أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال " "من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين " .

والمحاكمات المسيسة لها نتيجة حتمية ومسلمة ، فحواها الظلم ، ومضمونها التشفى ، حين تقلد النفايات وتهمش الكفايات ، وحين يوسد الحكم إلى أهل الثقة من الفسدة ويمنع منه أهل الكفاءة من الصلحاء ، نتيجة حتمية مؤداها الجور فى الأحكام .

وقد كان قضاة السوء يعرفون – قديما - بين العلماء من خلال الجور فى الأحكام ، التى تظهر فيها ممالأتهم للسلطان ، أو أتباعه، وقبولهم الرشى ، وعدم التعفف عن الدنيا ، ولذلك ذاع بين العلماء قولهم : " إن فلانا من قضاة السوء في عصرنا " ، كما يقول ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852هـ) .

وكما قيل : ليس العدل فى نص القانون وإنما العدل فى نفس القاضى ، وإن فساد القاضى تتبعه كل كارثة.

وقد أجرى الفقهاء الأحكام الشرعية الخمسة على قبول القضاء فقالوا : قد يكون واجبا أو مستحبا أو مباحا لمن هو أهل له وقد يكون مكروها أو حراما .

وقرروا أن تقلد القضاء يكون حراما إذا كان أحد يعلم عجزه عن القضاء ، وعدم استطاعته لمراعاة العدل فيحرم عليه قبول القضاء، فلذلك قرروا أن تقليد ( الجاهل الملوث أو المتلبس بالأشياء الموجبة للفسق ، أو القاصد الانتقام ، أو الراغب في أخذ الرشوة ) حرام .

وكم من قاض اليوم لا يصلح أن يكون قاضيا ، وكم من قاض اليوم وقع تقليده حراما ، وجاء حكمه باطلا .