قال تعالي: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(الحديد: 21).

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ  وَأَعْلَى الْجَنَّةِ, وَمِنْهُ تَنْفَجِرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ, وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ عز وجل»(رواه البخاري).
 
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ينبغى للعاقل أن ينتهى إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصَوَّر للآدمى صعود السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصَّل بالاجتهاد رأيت المقصِّر فى تحصيلها فى حضيض"(صيد الخاطر).
 
علو الهمة خلق المجاهدين:
 
الهمة العالية هي القوة المعنوية التي تجعل صاحبها يطلب المعالي، ويسعي للقمم، ويتحدي الصعاب، ويستهين بالشدائد، ويقتحم الأخطار، وتجعله كذلك يرفض الركون، ويأبي الاستسلام، ويترفع عن الدنايا، ويأنف من الضعف و الهوان، ولا يعرف شيئاً اسمه المستحيل، فالهمة العالية  طاقة خلاقة، ونفس تواقة، وحركة سباقة ... وهي عقل ملحاح وآمال فساح، وعمل دائب في المساء وفي الصباح. وعلو الهمة من الإيمان "والتقىّ حقاً هو الرجل الذى أوتى من علو الهمة وطول الباع ما يمكنه من تملك الدنيا... ثم هو قد أوتى إلى جانب ذلك من صدق اليقين واحترام الحق والنزوع إلى الكمال ما يجعله يزدرى ذلك كله فى ساعة فداء وتضحية"(محمدالغزالي، تأملات في الدين والحياة).
 
والهمة العالية خلق المجاهدين، وعلي رأسهم الرسل والأنبياء رضوان الله عليهم، وقد بلغت همم أولي العزم من الرسل أعلي ذروة بلغتها الإنسانية في تاريخها كله، فهذا إبراهيم عليه السلام حملته همته العالية علي الوقوف وحده في وجه الأخطار التي تنخلع منها قلوب الأبطال؛ والاستهانة بالتهديد والوعيد من الجبابرة المتسلطين، وعدم الخوف من النار المضطرمة التي ألقي فيها بالمنجنيق، وقد وقف هذه المواقف العالية وهو ما يزال فتي في مقتبل عمره وبدايات شبابه، فلم يكتفي بالبلاغ حتي قام إلي الأصنام فحطمها، ولم ينسحب أبداً من مواجهة الباطل إيثاراً للسلامة، ولم يكترث أبداً لما  يمكن أن يصيبه من أذي ما دام في سبيل الله﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 58 - 69).
 
والعجيب في سيرة هذا النبي الكريم الذي وصفه الله أنه أمة وحده أن هذه الهمة العالية لم تنل منها الأيام والأحداث، وظلت هكذا متوهجة علي كر الليالي وتعاقب الأيام، وبقيت معه ملازمة له لا تنفك عنه ولا ينفك عنها حتي كبر سنه ورق عظمه فحملته هذه الهمة العالية أن يتسامي فوق مشاعر الأبوة ومشاعر الحاجة إلي قوة الابن ومعونته في هذا السن؛ فيستجيب لله تعالي في الأمر بذبح ابنه  الشاب الحبيب  إسماعيل، ورغم أن هذا الأمر كان برؤيا منام وهي أقل درجات الوحي فقد كانت استجابة إبراهيم عليه السلام نفس استجابته للوحي المباشر، وبنفس القوة والحماس﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (الصافات: 102 - 107).
 
والدرس البليغ من همة إبراهيم عليه السلام في أول عمره وآخره أن الهمة العالية ليست وقفاً علي مرحلة دون أخري، ولا ترتبط بالقوة والشباب وحده، فالهمة العالية تجعل الكهل يعيش بروح الشباب وحيوتهم وحماسهم، وسقوط الهمة يصبغ الشباب بصفرة الموت،  ويلف الشباب في أكفان الموتي. بل إن الهمة العالية تجعل صاحب العذر ينافس الأصحاء بل ويسابقهم فيسبقهم سبقاً بعيداً ويتفوق عليهم تفوقاً منقطع النظير، وهل كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه إلا معاقاً شديد العرج وقد قبل الله عذره عن الجهاد، ولكن همته أبت عليه إلا المشاركة في مواجهة الباطل، وأبت عليه أن ينتظر حتي يأكل تمرات في يده، وانطلق لا يلوي علي شيء حتي أمسي  شهيداً في الجنة.
 
وقد حفظ لنا تاريخ الحركة الإسلامية في القرن العشرين سير قادة عظام أصبحوا رموزاً للجهاد والتضحية علي مر العصور، وعلي رأس هؤلاء الشيخ أحمد ياسين شيخ المجاهدين الذي حملته همته العالية علي قهر الإعاقة، واستفرغ وسعه في تربية جيل من المجاهدين، وظل دائب الحركة حتي ضاق الاحتلال الصهيوني بحركته فاستهدفته طائرات الأباتشي الإسرائيلية بصواريخها الموجهة بعد خروجه من المسجد في صلاة الفجر، فكانت بقايا كرسية المتحرك الذي تطاير مع أشلائه حجة علي الأصحاء وأهل القوة والعافية، وصار رمزاً للجهاد الإسلامي بل لكل الأحرار في دنيا الناس إلي يوم يبعثون. ولم يكن حالة فريدة في الجهاد الفلسطيني فقد سار علي نهجه الشهيد أحمد جرار علي كرسيه المتحرك، وفي مسيرات العودة الأخيرة شاهد الناس علي شاشات التلفاز الشيخ مبتور الساقين علي كرسيه المتحرك وهو يرجم الاحتلال بمقلاعه ويواجه رصاصهم بصدره العاري حتي لقي ربه شهيداً.
 
نعم يا أخي الحبيب.. إنها الهمة العالية التي تبعث الحياة في البلي، وتجعل المستحيل ممكناً، وتتخطي كل الأسوار، وتحطم كل القيود، وترتفع علي كل الآلام، فتصنع المعجزات،  وتأتي بالعجائب التي تبهر العقول. في كل الميادين، وتجعل العمر القصير مباركاً، وتمد فيه آلاف السينين؛ فقد توفي الإمام النووي رحمه الله في الأربعينات من عمره وخلف علماً ينتفع به إلي يوم القيامة، واستشهد الإمام البنا رحمه الله ولما يجاوز العقد الرابع وقد أنجز أعظم بناء  يحمل هم الإسلام في القرون الأخيرة، وزار أكثر من أربعةآلاف قرية في القطر المصري، وغرس الدعوة في قلوب الملايين.
 
الاستمرار علي نهج الاستقامة:
 
من مظاهر الهمة العالية الاستمرار علي نهج الاستقامة؛ فيبقي الإنسان علي خلقه ومروءته في السراء والضراء،  والعسر واليسر، والرخاء والشدة، ولا تنال منه الشدائد فتحرفه عن استقامته، ولا تستبد به الأحداث فيفقد خلقه الحسن وينزل عن مستواه الرفيع، فلا تبطره النعمة ولا يذل لفقدها، ولا يبتعد عن الحق والعدالة والإنصاف مهما كانت الظروف، فهو يعمل قل الناس حوله أو كثروا، وتنجلي عنه كل فتنة ولم تنل من عقله أو قلبه أو روحه قيد شعرة، وتنطوي دونه كل شدة ولم تنل من مروءته مثقال ذرة،  و ورحم الله الشاعر عبد العزيز بن زرارة إذ يقول:
 
وليلة من ليالى الدهر كالحة ونكبة  *****  باشرت من هولها مرأى ومصطرعا 
لـــــــو  رمى الرامـــــــــــى بهــــــــــا حجـــرا أصـــــم   *****  من جـــــــندل الصـــــــــوان لانــــــصدعـــــــــــــــا
مرت علىّ، فلـــــم أطرح لهــــــــا ســـــــــــــَـَـــلَبى  *****  ولا اشــــــــتكيت لها وهنـــــا ولا جزعـــــــــــــــا
لا يملأ الأمر صدرى قبل موقعـــــــــــــــه  *****  ولا يضيق بــــــــه صـــــــــــدرى إذا وقعـــــــــــــــــا
كُلاً لبستُ فلا النعماء تبطرنــــــــــــــــــــــــى  *****  ولا تخشعــــــــــت مــــــــن لأوائهـــــا جزعــــــــــــا
 
يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: "إن علو الهمة ميزة تختص بها النفوس الكبيرة، وليس خلقاً يستطيعه سواد الناس، وعندما يعتنق الرجل مبدأً كريماً ثم يسير فى الحياة على ضوئه تلقاه عقبات جمة،
وتعترضه صعابٌ كثيرة فإن كان واهن العزم قريب القاع فتّ ذلك فى عضده، وثناه عن غرضه، أما إن كان عالى الهمة، صلب الإرادة فإن احتكاك الشدائد بنفسه الكبيرة لا يزيده إلا رغبة فى الانطلاق وأملاً فى الوصول ... أجل قد تتكون بعض النفوس من عناصر هشة، سرعان ما تنكسر عند أول صدام، ثم تؤثر الانسحاب والتوارى ... وقد يتكون بعضها من عناصر ذات بأس واقتدار، إذا التقت بالأحداث العاتية قدحت الشرر، وتألق جوهرها على مس الشدائد.
 
 
ومن الغلط الكبير حسبان الحياة امتحاناً واحداً، إذا اجتزناه بنجاح لم نتعرض لأمثاله بعد، كلا، إن الحياة جملة ختبارات متعاقبة، ما يكاد المرء يخلص من عقبة إلا ليواجه عقبة أخرى مثلها أو أشد منها، والبطولة الصحيحة ألا يفقد المرء قدرته على النضال ما بقيت فيه عين تطرف. إن بعض الناس قد يسأم تكاليف الإيمان، ويستغلى نفقات الجهاد فينكص على عقبيه بعد أن سار فى الطريق خطوات، وقطع منه شوطاً أو أشواطاً. إن الركون إلى الراحة بعد جهاد قصير أو طويل آفة خطيرة، ترجع إلى سوء التربية وضعف التوجيه، وما أحوج المسلمين إلى مربين يصبون الأجيال الوافدة فى قوالب الإيمان، ويبذرون فى سلوكهم معانى المثابرة وطول الكفاح... إن النفوس الكبيرة لا يصرفها عن غايتها العظمى صارف من عنت تلقاه أو خطأ تقع فيه، بل تبقى نماذج حية لعلو الهمة والإفادة من التجارب فى نصرة الإيمان ، ودعم منطقه، وتمهيد طريقه"(في موكب الدعوة، بتصرف).
 
 وملازمة أصحاب الهمم العالية، أو مطالعة سيرهم من أكبر العوامل المعينة علي تفجير ينابيع الهمة في النفس، وبالعكس مرافقة أصحاب الهمم المقعدة والآمال الكسيحة، والأفكار السلبية تكبل الإنسان  فيذبل الأمل في نفسه، وتنطفي شعلة الطموح، وتموت الهمة. وقد أظهرت المشاهدات العملية أن "الكثير من الأذكياء وقفهم فى منتصف الطريق أو فى مبادئه أنهم صحبوا نفراً من القاصرين والعجزة، فغرهم ذلك بأنفسهم وستر عنهم ما كمن فيهم من نقص أو أخفى عنهم ما يطيقونه من درجات الكمال لو نشطوا. وهذه الصحبة وبال على الإنسان، لأنها قيدت الهمة وشلت الطموح. ولذلك ينصح ابن عطاء الله قبل ذلك فيقول: " لا تصاحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله"(محمدالغزالي، الجانب العاطفي من الإسلام).
 
واجبات عملية:
 
(1)  اقرأ في سير أصحاب الهمم العالية وانقلها لزوجتك وأولادك وانشرها بين أصحابك ومعارفك.
 
(2)  استمر علي نهج الاستقامة الذي وفقك الله إليه في شهر رمضان، فحافظ علي القرآن وقيام الليل والصلة بالمجتمع.
 
(3)  اصحب من تحملك همته علي الخير ، ولا تصحب من لا يدلك علي الله حاله.