معاناة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة والحركة المستمرة مثال لا يتكرر؛ حيث تعرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضغوط من أهله وأقاربه، وعروض للإغواء من عشيرته وإيذاء من قومه، حتى اضطر إلى الخروج إلى الطائف، وهناك تضاعف الإيذاء، وعاد لا يجد حيلةً في الدخول إلى بلده مكة التي تأوي أي إنسان، ولو كان مجرمًا يتحصن بمكة فيأمن على نفسه، حتى اضطر أن يدع بلده مكة مع هذا الدعاء الذي يدل على جرح وألم شديدين، غائرين في قلبه ووجدانه، وهو يودع بلده وأولاده وأهله بقوله :"والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما فعلت" أخرجه الترمذي وصححه النسائي في الكبرى وابن ماجه وابن حبان.

ثم هجرته في هذا الجو العصيب بعد التربص بقتله في بيته، والترقب لحركته ومكمنه كي يقتلوه، وخروجه ماشيًا، ثم راكبًا جملاً في صحراء جرداء، ووصوله إلى المدينة ؛ليبدأ في الإعمار والبناء للرجال والنساء والشيب والشباب، واستعدوا جميعًا إلى تكاليف بناء الدولة، وعزة الإسلام، فكانت الغزوات تلو الغزوات والسرايا بعد السرايا، وعاش يتنقل بين أرجاء المدينة وبدر وأحد والخندق، وفتح مكة وحنين وخيبر في غزوات وسرايا زادت عن الخمس والثلاثين، في أقل من عشر سنوات، بما يعني أن حياته صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تعرف إلا الهجرة والجهاد والحركة الدائبة لنشر الإسلام في العالمين، مما يوجب استعادة هذه الروح الحركية الجهادية القوية لاستعادة ما استعبد من بلاد، وهداية من ضل من العباد، وإلا صرنا بحق أكذب الناس على الله.

هجرة الدعاة إلى العراق والمدائن:

1- فتح العراق:

"حين قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فتنة الردة وتوحَّدت شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام وجه اهتمامه إلى الفتوحات خارجها.

كان العراق خاضعًا للدولة الفارسية في ذلك الوقت، وقبل وصول الجيوش الإسلامية في عهد الصديق لفتح هذه المنطقة كانت هناك اتصالات بين المسلمين والفرس تمثلت في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبرويز كسرى الفرس يدعوه إلى الإسلام مع عبد الله بن حذافة السهمي، وذلك بعد تحركه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، ثم إسلام الفرس في اليمن.

 وقد وجه أبو بكر رضي الله عنه لفتح العراق جيشين: الأول بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه  ويأتي العراق من جهة الجنوب، والثاني بقيادة عياض بن غنم رضي الله عنه ويأتيه من جهة الشمال ليلتقيا في الجزيرة. وكان ذلك في مطلع العام الثاني عشر للهجرة. ووصل خالد إلى جنوب العراق فكانت أولى الوقائع بينه وبين الفرس في منطقة الحفير قرب الخليج العربي وتسمى هذه المعركة بذات السلاسل وكان قائد الفرس فيها هرمز حاكم الأبُلة حيث انتصر عليه خالد، ثم اتجه إلى الفالوجة حيث التقى بجيش فارسي، وبعد انتصاره عليه توجه إلى الليس، ثم إلى الحيرة التي تُعد عاصمة ملوك العرب من قِبَل الفرس؛ حيث فتحها صلحًا واستخلف عليها القعقاع بن عمرو.

ثم توجه إلى الأنبار فحاصرها، ثم فتحها ثم قصد عين التمر فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه، وكان من غنائم المسلمين فيها أربعون غلامًا نصرانيًّا كانوا يتعلمون الإنجيل فأسلموا ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور ونصير والد موسى بن نصير فاتح الأندلس وجد أبي العتاهية الشاعر. 

بعد ذلك توجه خالد إلى دومة الجندل لمساعدة عياض ضد أكيدر ومن معه؛ حيث تم الفتح عنوة وقتل أكيدر. ثم عاد خالد إلى العراق قاصدًا الفراض وهي تخوم العراق مع الشام التي اجتمع فيها جيش من الفرس والروم وانضم إليهم نصارى العرب فقاتلهم خالد وانتصر عليهم". (3)

2- فتح المدائن:

"لما تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة أكمل ما بدأه سلفه أبو بكر الصديق؛ فوجه جيشًا آخر إلى العراق بقيادة سعد بن أبي الوقاص؛ ليقضي على نفوذ الفرس بها.

وخرج سعد رضي الله عنه من المدينة إلى العراق في أربعة آلاف فارس، واستطاع سعد وجنوده أن يحققوا أعظم الأمجاد، وسطّروا أروع البطولات، وتوالت انتصارات المسلمين على الفرس في القادسية ثم بُهْرَسِير التي كانت ضاحية للمدائن على الضفة الغربية لدجلة، لا يفصلها عن المدائن سوى النهر، ولا تبعد عن بغداد بأكثر من عشرين ميلاً إلى الجنوب.

بعد فتح بهرسير أراد سعد رضي الله عنه أن يعبر بجنوده إلى المدائن، ولكنه وجد أن الفرس قد أخذوا السفن كلها حتى يمنعوهم من العبور إليهم.

جمع سعد رضي الله عنه جنوده وأخبرهم بعزمه على عبور دجلة إلى المدائن، فوجد منهم حماسًا شديدًا ورغبة أكيدة في السير إلى الفرس وفتح عاصمتهم المدائن، وقسم سعد جيشه إلى عدة كتائب، وجعل على رأس كل منها قائدًا من أمهر رجاله، وأكثرهم حنكة وكفاءة، فجعل على الكتيبة الأولى "كتيبة الأهوال" عاصم بن عمرو الملقب بذي البأس، وجعل على الكتيبة الثانية "الكتيبة الخرساء" القعقاع بن عمرو، ثم سار هو على بقية الجيش.

وتقدمت الكتيبتان في إيمان وشجاعة؛ فلا البحر يخيفهم ولا الفرسان المتربصون بهم على الشاطئ الآخر يرهبونهم.. وأسرع المسلمون يعبرون النهر بخيولهم حتى امتلأت صفحة النهر بالخيل والفرسان والدواب، فلا يرى أحد الماء من الشاطئ لكثرة الخيل والفرسان؛ فلما رأى الفرس المسلمين وقد خاضوا النهر إليهم راحوا يجمعون فرسانهم للتصدي لهم، ومنعهم من الخروج من الماء، واجتمع عدد كبير من فرسانهم حول الشاطئ مدججين بالسلاح يترقبون وصول المسلمين ليرشقوهم بالسهام والرماح، ويقضوا عليهم قبل أن يصلوا إلى الشاطئ.

ولكن قائد الأهوال عمرو بن عاصم رضي الله عنه يدرك بسرعة ما ينتظرهم، فيأمر رجاله أن يشرعوا رماحهم، ويصوبوها إلى عيون خيل الفرس، وتنطلق الرماح وكأنها البرق الخاطف إلى عيون الخيول، فتعم الفوضى بين صفوف الفرس، وتضطرب صفوفهم، ويفرون أمام المسلمين، وقد امتلأت نفوسهم رعبًا وفزعًا، وهم لا يملكون كف خيولهم، يطاردهم فرسان كتيبة الأهوال.

ودخل المسلمون المدائن فاتحين منتصرين، وغنموا ما تحويه من نفائس وذخائر، بعد أن فرَّ كسرى وجنوده حاملين ما استطاعوا حمله من الأموال والنفائس والأمتعة، وتركوا ما عجزوا عن حمله. 

 ودخل سعد القصر الأبيض بالمدائن، وانتهى إلى إيوان كسرى، وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28)﴾ (الدخان) (4). هذه رواية موثقة من البداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الرسل والملوك للطبري، الكامل في التاريخ لابن الأثير.

هذا نموذج حي من هجرة الدعاة أصحاب كتيبة الأهوال والخرساء، حيث تنطق فعالهم بقوة إيمانهم وصدق قلوبهم، وقوة عزائمهم، فأزالوا إحدى القوتين العظميين من طريقهم وطووا صفحتهم أمام شاهدهم وغائبهم، فلما تحوَّلت كتائب الأهوال والخرساء ذات الفعال إلى منظمات نشطة في القيل والقال، والتسول والسؤال؛ آل الأمر إلى ذل وهوان وإضاعة الأقصى والعراق والصومال، واحتلت بالجملة ديار الإسلام.