بقلم: اللواء الركن محمود شيت خطاب

حلَّ شهر رمضان المبارك على طلاب الكلية العسكرية سنة (1356هـ - 1937م)، وغمرت أنواره قلوبَ المؤمنين في كل مكان، فاستقبله قسمٌ من الطلاب العسكريين بما يستحقه من حفاوة بالغة، وصمَّموا على الصيام مهما تكن الصعوبات والمشاكل.

لقد تعوَّد هؤلاء على صيام هذا الشهر المبارك حين كانوا تلاميذَ في المدارس المدنيَّة، وليس من السهل على من اعتاد الصوم أن يتخلَّى عنه؛ فهم قد تذوقوا فرحة الصائم، وبركات الصوم، وحلاوة الإيمان، وليس من ذاق كمن حُرم، ومتاعُ الدنيا كله لا يساوي شيئًا بالنسبة إلى ما تذوقوه.

ومضى اليوم الأول من أيام الصيام، واجتمع الطلاب الصائمون على مائدة الإفطار والسحور، تحف بهم الملائكة، وترتسم على وجوههم سماتُ العزم والانشراح، وكما عزموا على الصوم، عزموا على إبراز أثر الصوم في الصائم الحق، معاملةً حسنة للناس، وأخلاقًا محببة للنفوس، ومضاعفة للعمل المثمر البناء، وامتيازًا في النجاح دون الاكتفاء بالنجاح وحده.

كان الصائمون من طلاب الكلية العسكرية أقلية، وكانت الأكثرية تشكُّ في إمكان الصوم وتحمل المشاقِّ العسكرية في آن واحد، وكان المسؤولون في الكلية والطلاب يتوقعون الإخفاق للصائمين في مجالي العلوم العسكرية والتدريب العسكري، وكانوا ينتظرون أن يتناقص عدد الصائمين بالتدريج حتى يتلاشى، وكانوا بين مشفقٍ على الصائمين ومستقبَلهم، وبين مستهجن لإصرارهم على الصوم.

ومضتْ أيام رمضان يومًا بعد يوم، وعددُ الصائمين يزداد كلَّ يوم، ومضى الصائمون يثبتون عمليًّا أن الصوم حافز من أقوى حوافز العمل والإنتاج والنجاح، وكان من أشدِّ المقاومين للصائمين ضابطٌ برتبة نقيب، وكان هذا الضابط قائدًا لفصيلة من فصائل الكلية العسكرية، وكان قادة الفصائل يتنافسون فيما بينهم على التفوق، وحين تفشَّى الصوم بين طلابه تنادى بالويل والثبور، وقد كانت فصيلتُه متميزة قبل رمضان، فظنَّ بعد حلوله أنها ستصاب بنكسة قاصمة، ولم ينقضِ الشهرُ المبارك إلا ولمس تقدُّمًا مذهلاً في فصيلته، فقد كان طلابه الصائمون يرتفعون كل يوم، وينالون قصب السبق في التدريب والألعاب والدروس، فما حلَّ العيد إلا وكانتْ فصيلته قد بلغت درجةً من التفوق لا تضاهى، حتى أصبحتْ فصيلته - بفضل الصائمين - هي الفصيلةَ النموذجية بين فصائل الكلية العسكرية قاطبة، وأصبحتْ مضربَ الأمثال في التدريب والتهذيب، والعلوم العسكرية، والألعاب الرياضية.

وصادفت هذا الضابط بعد عشر سنوات، وقد أصبح برتبة عقيد، قائدًا لوحدة من وحدات المشاة في فلسطين سنة 1948م، وزرت وحدته في شهر رمضان من تلك السنة، فرأيته صائمًا، يقاوم الإفطار، ويأمر بالصوم، ووجدت وحدته كلها - ضباطًا، وضباط صف، وجنودًا - صائمين، ووجدته مهتمًّا إلى أبعد الحدود بإحضار الإفطار والسحور لرجاله، فرحًا غاية الفرح بإجماع أتباعه على الصوم، وحرصهم الشديد عليه.

وقال معللاً سرَّ تحوُّلِه عن مقاومة الصوم والصائمين: "لقد تعلمتُ من طلاب الكلية العسكرية الصائمين، أن الصوم سر من أسرار التفوق والامتياز، وكنتُ قبل ذلك واثقًا من أن الصوم يضعف الهممَ، ويحث على الكسل، ويقلِّل من الإنتاج وفرص النجاح".

إن كل فرائض الإسلام، وكل تعاليمه، خيرٌ وبركة، إذا طبقها المسلمون كما ينبغي، ولو طبق المسلمون اليوم تعاليمَ دينهم تطبيقًا سليمًا، لقادوا العالم، وسيطروا على مقاليده عسكريًّا، وسياسيًّا، وحضاريًّا، ولكن أين من يطبق تعاليم الإسلام كما يجب، أين؟!

وطالما سمعتُ غيرَ الصائمين يقولون: كيف تستطيعون الصوم عن الطعام والشراب ساعات وساعات؟! هؤلاء وأمثالهم لم يؤمروا بالصوم حين كانوا صغارًا، ولم يشاهدوا آباءهم وأمهاتهم يصومون، فلما كبروا استقرَّ في أذهانهم أن الصوم صعبٌ، لا يُحتمل ولا يطاق، ولو أنهم صاموا وهم صغار، وشاهدوا أبويهم يصومون، لتغلغل حب الصوم في أفئدتهم ومعه نور الله، ولأصبحوا يقولون: كيف يستطيع المسلم القادر على الصوم الإفطارَ في رمضان؟! كيف يصبح المرء عبدًا لبطنه؟! كيف يعصي المؤمن الحقُّ أوامرَ الله؟!

قبل بضع عشرة سنة، ظهر طبيب ألماني كبير، درس آثار العقاقير في الجسم البشري، فوجد أن قسمًا منها يفيد من ناحية، ويضر من ناحية أخرى، فهي تبني وتهدم، وقد يكون ضررها أكبر من نفعها، كما وجد أن قسمًا من هذه العقاقير الطبية تترك آثارًا سيئة في الجسم، إذا لم تظهر اليوم، فإنها تظهر غدًا؛ لأنها تعتمد على المواد السامة في تركيبها.

وبعد بحوث مستفيضة أجراها ذلك الطبيب، وجد أن العلاج الطبيعي الذي يعتمد على الحمية، والهواء الطلق، والتعرض لأشعة الشمس، والإيمان بالقضاء والقدر - هو أنجع علاج لأمراض البشر.

وألَّف هذا الطبيب كتابًا عن العلاج الطبيعي، أشاد فيه بالصوم الإسلامي، وبالإيمان بالقضاء والقدر، وقال: إن هذين العلاجين أنجعُ العلاجات على الإطلاق.

فقد ذكر أن المعدة وأجهزة الهضم الأخرى تضرها التخمة، وأن فضلات الطعام تترك سمومًا قاتلة في الجسم، وأن الصوم يذيب هذه السموم بالتدريج، حتى يتخلص الإنسان منها، فتعود إليه صحته ويتعافى.

كما ذكر أن المكثرين من تناول الأدوية الصناعية، تكون نسبة السموم في أجسادهم أكثر من المقلِّين من تناول تلك الأدوية، وقد أورد قول الكاتب البريطاني برناردشو عن مضار العقاقير: "لو ألقينا الأدوية في البحر، لمات السمك".

وأنشأ هذا الطيب في ألمانيا مصحًّا صغيرًا، لم يفتأ أن أصبح مستشفى ضخمًا يقصده المرضى من جميع أنحاء العالم للتطبب بالعلاج الطبيعي، ثم انتشرتْ مستشفيات العلاج الطبيعي في ألمانيا وفي العالم المتمدن، وأصبح لهذا العلاج كراسي في كليات الطب ومختصون من الأطباء، كما تخرج في تلك الكليات أطباء عرب، يمارسون مهنتهم في البلاد العربية، ويلاقون النجاح، ويحظَوْن بثقة المرضى.

وكما علَّل الطبيب الألماني أهميةَ الصوم في تخليص الأجسام من السموم، علَّل أهمية الإيمان بالقضاء والقدر في العلاج الطبيعي، فقد ذَكَر أن المريض الذي تنتابه الهواجس يكون قلقًا خائفًا، والقلقُ يقوض الجسمَ، والخوفُ يحطم البدن، وهما عاملان من عوامل استشراء المرض وتفاقمه، أما الإيمان بالقضاء والقدر، فيُدخِل الهدوءَ إلى رُوع الإنسان، ويصاول القلقَ والخوف، ويشيع الاطمئنانَ في النفوس، مما يؤدِّي إلى شفاء المريض.

والإسلام هو الرائد في الصوم، والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله - سبحانه وتعالى - ولم يكن الطبيب الألماني هو الرائدَ، على الرغم من ادعاءاته وادعاءات غيره من الأطباء والناس.
ولكن الإسلام - مع الأسف الشديد - مظلوم، حتى بين معتنقيه جغرافيًّا وبالوراثة - وما أكثرهم عددًا، وأقلهم جدوى! وصدق الشاعر:
إِنِّي لَأَفْتَحُ عَينِي  حِينَ  أَفْتَحُهَا        عَلَى كَثِيرٍ وَلَكِنْ لاَ أَرَى أَحَدَا

إن فوائد الصوم العسكرية ظاهرةٌ للعيان، ولعل إبرازَها في مِثل هذه الأيام له أهميةٌ خاصة؛ نظرًا للظروف العصيبة التي يجتازها العربُ والمسلمون، وهم في حرب مصيريَّة على إسرائيل، وعلى مَن وراء إسرائيل من دول الاستعمار القديم والجديد.

وإحراز النصر على أعدائنا لا يكون إلا بالإيمان العميق، وهذا الإيمانُ هو السلاح الذي نتفوق به على الأعداء، فإذا تخلينا عنه تفوَّقَ علينا أعداؤنا بما يمتلكون من سلاحٍ وعتاد، ومكرٍ وخداع.

في العسكرية نوعٌ من التدريب يطلق عليه "التدريب العنيف"، وهو تدريب العسكريين على النهوض بواجباتهم في ظروف صعبة، كالحرمان من الطعام والماء والترفيه عن النفس، وتحمُّل التعب والسهر، وقطع المسافات الشاسعة، واجتياز العقبات، وعبور الموانع، واقتحام العراقيل.

وأهم ما في هذا التدريب العنيف هو الحرمان من الطعام والماء؛ لأن الجيش يمشي على بطنه - كما يقول نابليون - وهذا الحرمان هو الصوم.

إن الصوم يهيئ الأسباب للتدريب على الحرمان عن الطعام والشراب، أما بقية فروع التدريب العنيف فهي ميسورة لكل شابٍّ سليمِ الصحة، ومعظمُ عناصر كل جيش في العالم هم الشباب.

إن ظروف الحرب قد تقتضي انقطاعَ سابلة الطعام والماء؛ من جراء القصف الجوي، أو نسف الجسور، فإذا لم يكن الجندي قادرًا على تحمُّل الجوع والعطش يومًا أو أيامًا عند الضرورة، فإنه بدون شك يستسلم للأعداء، ويرضخ لإرادتهم.

أما إذا كان الجندي قادرًا على تحمل الجوع والعطش حتى تنجلي الغمة، فإنه يقاوم الأعداء ويصاولهم، ويحبط محاولاتهم؛ لإجبارهم على الرضوخ والاستسلام.

والتدريب على الحرمان عن الطعام والشراب هو في نفس الوقت تدريب على الصبر الجميل، ومن المعلوم أن الجندي الصابر يتغلب دومًا على الجندي الذي يُعْوِزه الصبر، وما أصدقَ المَثَلَ العربي "الحرب صبر ساعة"!

ثم إن أعدى أعداء المرءِ نفسُه، والرجل إذا استطاع السيطرةَ على هوى نفسه، فأدى ما "يجب" أن يؤدَّى، لا ما يهوى أن يؤدِّي، أصبح جنديًّا مثاليًّا في تصرفه ورجولته، وإقدامه وتضحيته، وما الصوم إلا سيطرةٌ على النفس الأمَّارة بالسوء، يوجِّهها إلى ما يجب أن تعمل، لا إلى ما تحب أن تعمل.

فإذا كان الجندي مسيطرًا على نفسه، فإنه يَحُول بينها وبين وساوسِها في التولِّي يوم الزحف وغيره، ويحملها على التمسك بفضائل الجندية الحقة.

وصوم رمضان يحتاج إلى عزمٍ صادق، وهذه المزية من مزايا الجندي المتميز؛ إذ لا فائدة من القرار الصائب بدون عزم على تنفيذه، ولا نصر في الحرب بدون عقد العزم على تحقيقه.

وكيف يمكن أن ينتصر الجندي إذا كان مترددًا، لا يقر له قرار على خطة أو رأي؟

إن الصوم يربي ميزةَ العزم في النفوس، ويقضي على رذيلة التردد.

والصوم الإسلامي يطهِّر النفسَ وينقيها من الدَرَن، ويرتفع بها إلى معالي الأمور، ويقتلع منها الخبث، وحينذاك تُقبِل على التضحية بالمال والنفس، وتطلب الشهادةَ أو النصر، والحرب في الإسلام هي إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر.

فما أحوجَنا إلى جنودٍ طاهرةٍ نفوسُهم، يُقبِلون ولا يُدبِرون، ويُؤثِرون ولا يَستأثرون!

والصوم يحث على التعاون الوثيق؛ لأن الصائم الحق يكون قريبًا من الله، بعيدًا من الشيطان، فيعاون إخوته في الدِّين أفرادًا، ويعاونهم جماعات، والتعاون مبدأ من مبادئ الحرب، فإذا تألَّف الجيش من أفراد متعاونين على النطاقين الفردي والجماعي، أصبح قوةً لا تُقهر؛ لأنه سيكون متعاونًا على نطاق الأسلحة المختلفة، والقيادات المختلفة، ويكون هدفُ رجاله المصلحةَ العليا للأمة، دون المصلحة الشخصية للفرد.

والصوم يغرس الخُلُق الكريم في النفوس؛ لأن الصائم الحق متسامحٌ دمث، يحب لغيره ما يحبه لنفسه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد يبدأ الصائم في التمسُّك بالخلق الرفيع في أول أمره "تطبعًا"، إذا غاضبه أحد، قال: إني صائم، ثم يمسي التطبع بالتدريج "طبعًا" فيه.

والدين المعاملة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث ليُتمم مكارم الأخلاق، وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - أعظمَ القادة؛ لأنه كان أعظمَهم أخلاقًا، والقائدُ المتمسك بالخلق الكريم، والجنديُّ المتمسك بالخلق الكريم - عناصرُ مفيدةٌ، ودعائمُ قويةٌ لكل جيش في العالم.
فما أحوجَنا اليوم إلى قادة وجنود متمسكين بخلق القرآن الكريم!

والصائم يطيع الله وينفذ تعاليمه، فيحرم نفسه من الطعام والشراب ومتاع الدنيا حتى يفطر.

وقد يكون جائعًا، فيخلو إلى نفسه، ويجد الطعامَ الشهي، والشرابَ الهني، ولكنه يمتنع عن تناولهما؛ مرضاةً لله، وتنفيذًا لأوامره.

هذه الطاعة في السر والعلن هي أرقى درجات "الضبط المتين"، التي تنص على إطاعة الأوامر، وتنفيذها عن طيبة خاطر في مختلف الظروف والأحوال دون رقيب أو حسيب.

ومن المعلوم أن الفرق بين الجندي الجيد والجندي الرديء هو تحلي الأول بالضبط المتين، وتحلي الثاني بالتسيب والتمرد والعصيان.

ومن المعلوم - أيضًا - أن الفرق الأساس بين الجيش القوي والجيش الضعيف، أن الأول قوي الضبط، والثاني ضعيفه لا يتميز عن العصابات بشيء.

أعرف أشخاصًا يخشَون رؤساءهم كخشيتهم لله أو أشد خشية، ولكنهم يعصون الله خالق الكون، وفالق الحب والنوى، القوي العزيز!

وطاعة المرؤوس للرئيس ما أطاع الرئيسُ اللهَ واجبةٌ، ولكن طاعة الله هي أوجب الواجبات.

فمتى يعرف الإنسان قدر نفسه، فيطيع الذي منحه الصحةَ والعافية، والرزق والحياة؟

تلك هي مجمل فوائد الصوم العسكرية، إذا استغلَّها العرب اليوم واستغلها المسلمون، تبدَّل حالهم إلى أحسن حال.

إنها تطبيق لمبادئ التدريب العنيف، وسيطرة على النفس الأمارة بالسوء، والتحلِّي بالعزم الصادق، وتطهير النفس من الخبث والدرن، والتمسك بمبدأ التعاون الوثيق الذي هو مبدأ من مبادئ الحرب، والتخلق بالخلق الكريم أفرادًا وجماعات، والالتزام بالضبط المتين الذي هو من أهم مزايا الجندية، والتشبث بالصبر الجميل الذي هو قوة كل جيش منتصر.

والذي أريده من إخواني قادة العرب والمسلمين، أن يأمروا بالصوم، ويشجعوا الصائمين، وأن ينهوا عن الإفطار، ويؤنِّبوا المفطرين؛ حتى يحققوا لأمَّتِهم وجيوشهم تلك الفوائدَ الحيوية، والله مع المتقين، وما النصر إلا من عند الله.

-----

مجلة "الوعي الإسلامي"، السنة 7، العدد واحد وثمانون، رمضان سنة 1391، ص32 - 37.