يطلق كثيرون على المأساة التي وقعت فيها "فلسطين" بإعلان الصهاينة دولتهم فيها في 14/5/1948م بـ"النكبة" أو "نكبة فلسطين" حتى صار هذا المصطلح دلالةً لازمةً على هذه القضية.

ومن الأمور المُوجعة.. الارتباط الذهني بين المصطلح والتاريخ الذي وقعت فيه المأساة؛ فصار هناك "ارتباط شرطي" بين هذا وذلك؛ فلا يعيش الناس أجواء الأحزان إلا إذا حلَّ هذا التاريخ، وكأنه "موسم" أو "ذكرى" وفاة عزيزٍ غالٍ.

وقد حرص د. إبراهيم أبو جابر مدير مكتب الدراسات المعاصرة بأم الفحم على توثيق صورٍ حيةٍ لأحداث النكبة وما أعقبها من مجازر وجرائم مرَّ بها الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا، وسَرَدَ روايات شهود عيان رأوا بأعينهم المجازر التي وقعت في بلادهم، وسجَّل هذه الروايات في كتاب "جرح النكبة" يصدر في أجزاء متتالية عن مركز الإعلام العربي؛ فسجَّل أكثر من 100 مجزرة عام 1948م اتسمت بقدرٍ عالٍ من الشراسة والدموية مثل مجزرة الدوايمة.

وقد حرص المؤلِّف على التعريف بالنكبة وما قامت به العصابات الصهيونية من ممارسات دموية وجرائم عنيفة ضد المدنيين العُزَّل وتدمير القرى والمدن وما ترتَّب على ذلك من تهجيرٍ للفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين بالقوة بعد الاستيلاء على أملاكهم وتسجيلها كأملاك لليهود.

ولا يتسع المجال لسرد جزءٍ يسيرٍ عن المآسي التي جرت في أجواء النكبة عام 1948م، ونُشير فقط إلى رواية السيدة "وردة" من "أسدود"؛ حيث جاءها البعض يبلغونها بوفاة أبنائها في حين قال آخرون إنهم تمكَّنوا من الهروب، وعندما خرجت هي وزوجها للبحث عنهم وجدت ثلاثةً من أبنائها قتلى، بالإضافةِ إلى زوجة ابنها وحفيدتها التي كانت رضيعةً.

ومن المشاهد المؤثرة أيضًا مشهد "دير ياسين" الذى كان مسرحًا لأشهر مجازر الحرب وأكثرها دمويةً؛ حيث أفادت تقارير "الهاجاناة" أنهم نفَّذوا في القرية مذابح بشعة دون تمييزٍ بين رجال ونساء أو أطفال وشيوخ، حتى وصل عدد الضحايا إلى ما يزيد على 245 شخصًا، ثم احتلت القرية التي تحوَّلت فيما بعد إلى مستعمرة صهيونية تحمل اسم "جفعات شاءول".

ويبدو أن هذا العنف الدموي هو طابع هذه العصابات، وجزء من مكنون نفسيتهم الشريرة؛ فإن اليهود في عام 1956م كانوا يقومون بقتل كل مَن يشتبهون فيه في الشوارع ثم يطلبون من الناس أن يقوموا بجمع الجثث وتحميلها في سيارات ونقلها إلى المستشفى، ومَن يرفض يكن جزاؤه القتل الفوري.

أما في الفترة الحديثة التي ما زلنا نلعق جراحها، فقد شكَّل اغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي أبرز الروايات الحيَّة التي عمَّقت الجرح الفلسطيني؛ فالأول تم تصفيته لدى خروجه من المسجد بعد أداء صلاة الفجر، أما الثاني فقُصفت سيارته.

هل ورث الصهاينة أبناء عمومتهم الصليبيين عند احتلالهم للقدس الشريف؛ حيث قتلوا جميع سكان البلدة الآمنة، وكذلك مَن احتمى منهم بالمسجد الأقصى، حتى صارت الدماء تسيل في الحواري والأزقة بغزارة تصل إلى ركب خيل الفرسان، لا بل الجبناء؟!.

وهل تنشط الذاكرة فتستعرض المآسي والمصائب التي ارتكبها المغول والتتار عند غزوهم الهمجي للعالم الإسلامي وإعمالهم القتل والتدمير والتخريب لكل ما تصل إليه أيديهم الشريرة من مكتباتٍ أو قصورٍ أو مساجد أو متاحف، فأبادوا كل لونٍ من ألوان الحضارة الإسلامية؟!.

وما لنا نذهب بعيدًا؟!.. فهذا "بوش" الرئيس الأمريكي يُشعل حربًا صليبيةً على بلاد المسلمين تحت دعوى "محاربة الإرهاب"، وفي الحقيقة هي حرب على الإسلام والمسلمين، اتسع نطاقها منذ أحداث سبتمبر 2001م حتى شملت أفغانستان والعراق والصومال ودارفور بالسودان، وباقي البلاد الإسلامية مرشَّحةٌ للغزو أو إحداث "فوضى خلاَّقة" بها.

هل يدعونا ذلك لأن نقول إن التاريخ يعيد نفسه، ولا جديدَ تحت الشمس، إن العداوة هي هي، والحقد الأعمى هو هو ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة: من الآية 217)، ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (البقرة: من الآية 120)، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ (النساء: من الآية 89).

هل تذكرون "المحرقة" أو "الهولوكوست" التي عاش اليهود على زعمها أو كذبها حتى الآن؛ ابتزازًا واستغلالاً لكل العالم؟!.. لقد حاولوا تكرار المأساة لكن بأيديهم، فهدَّد "متان فلنائي" نائب وزير دفاعهم بإشعال محرقة أو "هولوكوست" في قطاع غزة، ونفَّذوا ذلك بالفعل، وزادت ضرباتهم المجنونة، فقتلوا وأصابوا الأعداد الكبيرة وخرَّبوا المزارع والديار، ولم يُفرِّقوا بين رجلٍ وامرأة أو صغير وكبير، وكانت تصريحات قادة الحرب عندهم تشير إلى هدفهم الحقيقي، وهو إسقاط حماس وهزيمتها؛ لأن رأس حماس مطلوب طالما لم تلتزم بالشروط التي تريدها "إسرائيل".

ولقد صمدت غزة، وما زالت صامدة، وعجزت القوات الصهيونية عن تركيعها أو مجرد الاستقرار لبعض الوقت في القطاع، فارتدَّت على أعقابها خاسرةً، وليس لها من وسيلة إلا الطائرات والصواريخ، وأحسُّوا أن هناك تحسُّنًا نوعيًّا في المقاومة الباسلة (حماس والفصائل)، هذا التحسن في نوعية الأفراد والسلاح؛ مما دعاهم إلى أن يحرِّكوا أطرافًا عدة لطلب التهدئة بشرط إيقاف إطلاق صواريخ القسام على المستعمرات الصهيونية التي أصابتهم بكثيرٍ من القلق والانزعاج.

ويذهب الأستاذ طلعت رميح في مبحثٍ له نشرته مجلة (القدس) في عددها رقم 113 إلى أن مغزى انتصارات غزة يتمثَّل باختصارٍ في الآتي:

1) طرح بديل متجدِّد لمفاوضات أنابوليس وتوابعها أمام الشعب الفلسطيني والرأي العام العربي والدولي.

2) أن حكومة إسماعيل هنية في غزة بدأت تحصل على شرعية جماهيرية من نمطٍ آخر يُضاف إلى شرعيتها السياسية التي حصلت عليها في انتخابات 2006م؛ وذلك في وقتٍ دخلت فيه حكومة فياض في رام الله في حالٍ متسارعة من تآكل شرعيتها.

3) صمود المقاومة وقدرتها على تطوير المعركة ودون قدرةٍ لقوة الاحتلال على كسر الصمود أو منع تطوير القدرة.

وسؤال قديم جديد.. هل باع الفلسطينيون أرضهم؟!

لقد أشاع الصهاينة هذه الدعايات منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، وارتكزت على فكرة (أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض)، معتبرةً أنه لا يوجد شعب في فلسطين، وأنه من حقِّ اليهود الذين لا يملكون أرضًا أن تكون لهم هذه الأرض.

وتُركِّز دعايتهم المسمومة على أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود، وأن اليهودَ هم الذين اشترَوها بالحلال من أموالهم!! فلا ينبغي للفلسطينيين أن يطالبوا بها، وحقيقة الأمر أن المقاومة الفلسطينية النشطة للاستيطان اليهودي قد بدأت منذ بداية ظهور المشروع الصهيوني عام 1886م، وهناك صفحات ناصعة لمقاومة محاولات تَرْك أو بيع الأرض للصهاينة منذ الوقفة الرائعة للسلطان عبد الحميد؛ مرورًا بالعلماء والوجهاء من أهل البلاد مثل الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وروحي الخالدة، وسعيد الحسيني، ونجيب نصار، ولقد سهَّل الاحتلال الإنجليزي مهمة تسليم الأرض لليهود، كما باع كثيرٌ من العائلات، وأغلبها من النصارى، أمثال عائلات روك وكسار وخوري وحنا، وَفْقَ رواية صاحب كتاب فلسطين ص 76، كما استولى اليهود على أراضي الذين عجزوا عن سداد الضرائب بالمزاد.

ولعل الخسارةَ الحقيقيةَ لم تكن بسبب بيع الأهالي أرضَهم، وإنما بسبب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948م وإقامة الكيان الغاصب إثر ذلك على 77% من أرض فلسطين، وقيامه، بقوة السلاح، بطرد أبناء فلسطين والاستيلاء على أراضيهم، ثم باحتلال باقي أرض فلسطين إثر حرب 1967م مع الجيوش العربية، وقيامه بمصادرة الأراضي تحت مختلف الذرائع.

ومن هنا نُسقط أكذوبة دعوى بيع الفلسطينيين أرضَهم التي روَّج لها الصهاينة، وما زالوا يروِّجون، وتسقط كذلك فرية أن الفلسطينيين تركوا أرضهم بناءً على رغبتهم، ويطول الحديث لكشف هذا الادعاء، ويكفي أن نشير إلى أنه في أوقات الحروب والتخريب والإبادة، قد يفرُّ الأهالي من ديارهم على أمل العودة إليها متى استقرَّ الأمر وهدأت الحرب، ولا يعني ذلك تَرْكَ الأرض برغبتهم، ولقد حدث عندنا في مصر على إثر النكسة أنْ ترك أهالي مدن القناة ديارهم وهُجِّروا إلى أنحاء متفرقة من محافظات مصر.. فهل يُخوِّل ذلك لأحد ادعاء ترك الأرض والديار برغبتهم؟! وهل مَنَع ذلك أن يعودوا إلى ديارهم بمجرد انتهاء الظروف التي أوجبت ذلك؟!.

وعمومًا.. فلقد استفاد أهل فلسطين من هذا الدرس القاسي، وتشبَّثوا بالأرض وبالديار مهما حدث لهم إلى أن يتحقَّق لهم النصر وتزول غُمَّة الاحتلال بلا رجعةٍ بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.

-----------
سبق نشره على (إخوان أون لاين) في 12 مايو 2008