﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 183- 186].

الرضا.. من صاحب الرضا.. السماء تفتح.. الملائكة تتنزل.. الشياطين تصفد.. يقرب الرحمن من عباده.. فيضًا وإنعامًا.. يستجيب الدعوات.. يسألهم أن يسألوه.. لخيرهم.. لعلهم يرشدون.

الفرقان نزل في مثيلاتها، من مئات السنين، نور يهدي به الله من يشاء من عباده سبل السلام.. سبل الرأفة والإحسان.. سبل الإحسان سبل الهدى والفرقان.. فهل نحن هناك.. نسعى ونحفد.. نركع ونسجد.. نبايع ونتعهد، الصيام فريضة، والفريضة تكليف، التكليف عبء، والعبء ثقيل، الصيام استبدال حال بحال وتغيير الكثير من مألوف العادات.. والتغيير في شيء ليس بالأمر اليسير، فكيف يقول من يصوم أنه لا يحس التغيير، اللهم إلا إذا كان في رمضان، على ما هو عليه في غيره من الأيام، فانتبه لقوله تبارك وتعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، جملة اعتراضية لم توضع حشوا ولا زينة ولا عبثًا جاءت مقصودة لذاتها.. تدل على أننا لسنا وحدنا الذين نختبر بهذا التكليف.

لئن كان هم الصائم ترك الطعام والشراب وما إليهما، دون أي شيء آخر، فما أحراه أن يكون قد ضيع أيام الشهر الغالية في حصاد الشيم، فمن لم يدع ضيق النفس وغفلة القلب، وعبث الهوى، وقول الزور وما يستدعيه من مقدمات ونتائج وملابسات فليس لله حاجة أن يترك طعامه وشرابه، ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء: 147].

الصوم قيود.. مادية وروحانية.. والماديات أمرها هين حقير، فمن خال أن إمساكه عن الماديات طاعة مثلى، فأي فرح رباني حققه عند إفطاره الذي قرنه الله بيوم لقائه؟ ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن له فرصة الطعام بعد جوع والري بعد ظمأ؟ يا لفحالة التفكير!! محمد صلى الله عليه وسلم يرى أن الأكل والشرب فرصة تقرن بفرحة لقاء الصائم بربه؟! اهتمامًا للأكل والشرب؟ أية تفاهة في التقدير؟!!

فرحة الصائم عند إفطاره، هي فرحة المجد عند تحقيق الغاية ونيل الأجر، فرحته عند إفطاره، هي قضاء يوم من أيام الشهر مطهرًا من اللغو والعبث من الثورة والغضب، من الضيق والتأفف، من الأهواء والنزوات، فرحته عند إفطاره هي قضاء يوم من أيام الشهر الوضيئة، ازداد بالحلم والأناة بالصبر والرضا، برقة العاطفة وبسمة الوجدان يأخذ في رفق ويدفع بالتي هي أحسن، حتى إذا ما استثاره مثير، كان رده الهادئ الوديع، اللهم إني صائم أرأيت ثمرة الصوم الصادق.. ألفة.. مودة.. تدعيم للروابط بين المسلمين؟ أرأيت كيف الفرد في المجتمع يبر المجتمع بالفرد في هذا الصوم النظيف؟ جمال وجلال ود وكمال، ووقاية واحتمال، وثقة وجنة وبر بالمسلمين، تمتع وانهل، واسجد واقترب فما بعد اليوم من مستعتب.

أيها الحبيب الصائم.. إذا صمت يوم صومك، بعد تهجدك وفجرك ونومك، فلتقدر التبعات التي عليك طوال يومك، استعد بها شعورًا عميقًا بعد دخيلة نفسك، وقدرها تقديرًا دقيقًا من كل قلبك وحتى تستقبل يومك على الوجه الذي أراده لك ربك بعد فريضة الصيام، إما أن تمضي يومك، وكل همك أنك ما شعرت بظمأ ولا مخمصة، فما أضيعك لأجر ينتظرك، لو علمت كبير.

ألا يبعث الجوع تغييرًا في الفم؟ هل من المقبول أن يكون الإنسان كذلك؟ ألا ورب الكعبة الذي مقدر هذا التغيير حق قدره، فأثاب على هذا الخلوف المستنكر أن جعله عنده أطيب من ثنى المسك يتضوع في الآفاق إذا لم تزين هذا الخلوف بالخشوع والتواضع والتقرب إلى الله بحب عباده، عليهم، وحب الخير لهم، فقد بؤت بالخلوف وآثاره، وفقدت ما في القرب وأنواره.

ألا ترى حال الصوم ومكانته، وأنت تقرأ الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به»، لا يعرف أحد أنك صائم أو مفطر فما ظنك بمن يعرف ذلك عندك؟ لأنه لا تخفى عليه خافية ألا تحرص كل الحرص على ألا يرى منك في صومك إلا ما يحب ويرضى؟ ألا يقتضيك هذا المعنى مكابدة ومعاناة تلزمك بالكثير المضني من الحزم في مقاومة الأهواء والنزعات؟ أليست الحرب بين النفس والشيطان في جانب وبين المسلم في الجانب الآخر، حربًا ضروسًا طاحنة، مستعرة الأوار لا تهدأ ولا تهاون ولا تهيم؟ أترى أن هذا النضال سهل ميسور؟ أم أنه في أشد الحاجة إلى اليقظة والحذر والإعداد وخاصة في رمضان؟!

وإذا كان الصيام درع يتدرع بها الدارعون للحفظ والعون من الشهوات والمعارك، فهل يكون الدرع إلا حصنًا منيعًا لا عبء ثقيلا على الدارع في ساعات النزول، فإن لم يكن الصوم جنة لك من الهمز واللمز والغيبة والنميمة، والاستخفاف بالناس، والاستهانة بهم، والسخرية منهم، فماذا أفادك الإجهاد؟ ألا وأن الصوم لطهر، فكيف يؤتى الطهر والنقاء من قلب ولسان، وجارحة وجنان، إن لم تكن كلها صفاء ونقاء؟ فهل كنت في صومك وعاء للطهر، ومنبعًا للصفاء، ورمزًا للنقاء؟ ألا ترد الجوع بالرابطة في موقف الطهر؟ والظمأ بكأس الصفاء؟ والمشقة بمداح الطهر، وابتغ في صومك الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الحلال، وأحسن كما أحسن الله إليك، وطرز الصوم بخلق القرآن ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].

وإذا ما طهرك الصوم بالجلد والاحتمال وأصبحا منك خلقًا، فهل جعلتهما عدتك في الدعوة إلى الله، والصبر على الشدائد والاحتمال في مختلف ميادين الجهاد؟!

لقد كرمك بفريضة الصوم، فكن للإكرام الإلهي أهلا، لقد أسجد الله الملائكة لأبيك آدم عليه السلام، واصطفى من البشر الذين أنت واحد منهم، نبيك محمد صلى الله عليه وسلم فهلا ورثت الفضل والنبل والاجتباء، وقد أخرج الله أباك آدم عليه السلام من الجنة، لا طردًا له منها، ولكن ليعود إليها ونسله على حال تستحق الخلود مجد وكد حتى تكون هناك، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ويا لها من وقفة السعداء، وموئل الهناء، ومعقد الرجاء، ومهبط الأمناء، فقد أعد الله للصائمين مغفرة وأجرًا عظيمًا.

ليس يوم الصائم إخلادً للراحة، وركونًا إلى الدعة، ففي شهر الصوم جاهد أسلافك الأبرار وغزوا وقاتلوا فقتلوا وقتلوا، ليست لياليه للعبث واللهو والمسارح والانطلاق الرخيص، ولكنها للقيام والتهجد، والركون إلى الله بغير زاد، إلا زاد التقى والمعاد.

إن الصائم إذا أفتر فيما وجب عليه.. ضاع منه الأجر.. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فصام بعض منهم معه وأفطر آخرون.. وقام المفطرون بجميع الحطب وإعداد الطعام وجلب الماء، والعناية بالخيل والإبل، وأقبل الليل وأفطر الصائمون فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله"، فكان درسًا وكان توجيهًا لكل من يقعده الصوم عما يجب عليه، ليس في الصوم كسل ولا خمول، وما فيه من تراخ ولا ذبول.

لو أن الصوم حال لا يغاير ما عداه من الأيام، لما أبيح الفطر في السفر وللمرض، ولم يبح ترك الصلاة في المرض ولا السفر لابد أن تشعر أيها الصائم أنك صائم، ولا يغرنك جلدك واحتمالك فتراه شيئًا عاديًا، وإلا فما حكمة الصوم عند الله يوم أن شرعه؟ فكر وتدبر لتعرف فتقدر.

لماذا لا ينتهي كل شهر بعيد؟ والعيد فرحة وبهجة يحرم يومها الصيام، أليس العيد بفرحة جزاء لمن صام فأحسن الصيام؟ وقام فأكمل القيام، واحتمل وتطهر فنال جزاءه من مولاه بعيد.

ألا يسترعي انتباهك أن ليلة نزول القرآن ليلة القدر كانت في رمضان؟ ليلة واحدة تفضل ألف شهر منها الجلال، فلفها في غلالة نورانية شفافة فيها البهاء، تتنزل فيها الرحمات، ملائكة الرضوان معها طوافة رفافة إنها ليلة القدر، فرحة فاغتنمها.. منحة فاجتلبها.. تفتح فيها أبواب السماء للطائفين.. فادخل.. الزم بساط التهجد في أوتيات السحر.. تذلل لربك ففي التذلل له عزة ومنعة، تخشع ففي الخشوع بين يديه كل الفوز والرفعة، ابك على ما فات تسعد فيما هو آت، اعقد العزم على العمل الخالص تفز بأرفع الدرجات – وقدم ليلتها ما يكفل لك أبدع الحسنات.

صم يا أخي واشعر بأنك صائم، ظمئ جائع، صم واشعر بتغير الحال واصبر تجد لذة العبادة فعلا، صم فأنت في صيامك تجاهد في معركة تعددت ميادينها وتضافر مؤججوا نارها وتفنن موقدوا سعيرها، صم فالقرآن دستورك تنزل يوم المعركة ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: 41].

أخي الحبيب: حاول العلم أن يكتب علمًا، ولكنه استعصى أنساب عاطفة.. عاطفة تحبك في الله، وتؤثرك بالخير، فهيا قابل العاطفة بمثلها، والحب بحب مثله، حتى نحشر جميعًا مع الفائزين ليكن دعاؤنا معًا وإن بعدت الديار، وشط المزار، لتكن مناجاتنا إذا هدأ الليل واختلى كل حبيب بمحبوبه ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحة: 5].

مرحبًا بشهر الله.. شهر القرآن.. شهر الصيام.. شهر القيام.. شهر الاعتكاف.. شهر الجود المتدفق كالريح المرسلة.. شهر الحب، شهر النور، شهر القرب من الساحة العلوية.. شهر الأمل، شهر العمل.. شهر الوقوف على أبواب الكريم المنان..

اللهم اجعل صومنا لك ابتغاء مرضاتك، وطريقنا إلى جناتك، ومؤهلنا لاستقبال برك وهباتك، اللهم آمين.. اللهم آمين.. اللهم آمين.

آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أكررها ألف آمينا..

هل من مستمع؟ هل من مجيب؟

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:24].

-------------

المصدر : مجلةالدعوة – العدد (4) – شوال 1396هـ / أكتوبر 1976م.