تُلقي الأحداث المعاصرة التي يمر بها المجتمع المصري- شأنه شأن بعض دول العالم العربي والإسلامي- بظلالها على قضية مهمة هي علاقة القوى الشعبية، سواء تلك التي تلتزم بأيديولوجية دينية أو ماركسية أو ليبرالية، بالمؤسسة العسكرية.

مذبحة القضاة على يدي ناصر

منذ أن عرفت البشرية القضاء كسلطة كان حتمًا ولازمًا استقلالها عن سائر السلطتين التنفيذية والتشريعية، فاستقلال القضاء يحد ويوقف توغل كلٍّ من السلطتين الأخريين، فحوت كل دساتير العالم بإبراز أهمية هذا الاستقلال ورسّخت مبدأ الفصل بين السلطات واعتبرت أن السلطة القضائية هي ملاذ وحماية الحريات العامة بدون اجتزاء على الحرية الخاصة، فعمل القاضي لا يقاس بغيره.

إن النظام القضائي في الدولة أمر أساسي لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وإذا كان من طبيعة القضاء أن يكون مستقلا والأصل فيه أن يكون كذلك، فإن كل مساس بهذا الأصل من شأنه أن يعبث بجلال القضاء، وإن كل تدخل في عمل القضاء من جانب أي سلطة من السلطتين التشريعية والتنفيذية يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم.

ولقد شهدت مصر فترات كثيرة كان للقاضي شأنه وهيبته وقوة أحكامه، ولم تستطع السلطة التنفيذية الوقوف في وجه قوته، فهذا القاضي العز بن عبد السلام الذي وقف في وجه حكام البلاد وأمراء المماليك حينما أرادوا فرض ضرائب على الشعب فرفض إلا بعد أن يخرج الأمراء وزوجاتهم كل ما لديهم، ثم يقف كل مملوكي ليُباع، وحينما قوبل بالاضطهاد ومحاولة القتل حمل متاعه وغادر فخرج أهل مصر خلفه حتى نزل المماليك على رأيه (1).

وظل القضاء بين القوة والضعف حتى حدثت ثورة 23 يوليو 1952م وسيطر العسكر على مقاليد الأمور، فعمدوا إلى السيطرة على مفاصل السلطة القضائية، حيث فرضوا قضاة عسكريين للقيام بشئون المحاكم (خاصة مع السياسيين) فقد عين عبد اللطيف البغدادي– أحد أعضاء المجلس العسكري– في 16 سبتمبر 1953 رئيسا لأول محكمة ثورية، وبعضوية كل من أنور السادات وحسن إبراهيم، حيث حاكم بعض السياسيين المدنيين دون عرضهم على قضاتهم الطبيعيين الذين سيطر عليهم (2).

واستمر توغل العسكر في القضاء حتى تمت مذبحة القضاء عام 1969م والتي وصفها المستشار يحيى الرفاعي بقوله: كان من بين إنجازات الحقبة الليبرالية في مصر قبل قيام حركة ضباط 23 يوليو 1952، ضمان استقلال السلطة القضائية واحترام أحكامها، وعدم تدخل الدولة في شئون القضاء والقضاة، وعاش قضاة مصر أزهى عصور الاستقلال خلال حكومات الوفد، في إطار قانون استقلال القضاء الصادر عام 1943 في عهد حكومة مصطفى باشا النحاس.

وفي أعقاب حركة 23 يوليو، وتأميم الحياة السياسية والديمقراطية في مصر، شهدت العلاقة بين ضباط الجيش والقضاة صدامات حادة وعديدة؛ نظرًا لرغبة حركة الجيش في فرض هيمنتها والاستئثار بجميع السلطات، لذلك كان طبيعيا أن ينتهي الأمر بصدام مروع بين الطرفين، وهو ما عُرف تاريخيًّا في أغسطس 1969 باسم “مذبحة القضاء” والتي قام خلالها الرئيس عبد الناصر بالتخلص من أكثر من مائتين من قضاة مصر بعزلهم بالمخالفة للقانون، نتيجة لتقارير كاذبة من أعضاء التنظيم الطليعي تتهم القضاة بالعداء لنظام 23 يوليو.

التطاول على القضاة والتجسس عليهم

وشهدت هذه الفترة الكئيبة على قضاة مصر، تطاولا على أحكام القضاة عبر صفحات الجرائد، وخضع عشرات القضاة لعمليات تجسس من قبل الأجهزة الأمنية.

هذه المذبحة نفذت في 31 أغسطس 1969، وتم خلالها عزل رئيس محكمة النقض، وأكثر من نصف مستشاريها وناهز عدد القضاة المعزولين حوالي مائتي قاضٍ من القضاة المتمتعين بحصانة عدم القابلية للعزل بغير الطريق التأديبي طبقا للقانون، أما أسباب هذه الكارثة، وإذا شئنا الدقة فقد كان وراءها سبب غير مباشر وهو هزيمة يونيو 1967 وما تبعها من آثار نفسية وعصبية على القيادة السياسية، وعلى من كانوا على صلة بها من أعضاء التنظيم السري الطليعي في الاتحاد الاشتراكي، وللأسف الشديد فقد كان بعض رجال القضاء ومجلس الدولة منخرطين في هذا التنظيم، كما تبين لنا فيما بعد، وكانوا معدودين علي أصابع اليدين وكان بعضهم يكتب التقارير السرية عن زملائه إلي القيادة السياسية يوميًا بما كان يدور من أحاديث في نادي القضاة، ومجالس القضاة الخاصة، حيث كانت هذه مهمة أعضاء ذلك التنظيم وبهذا الأسلوب بدأوا في إثارة غضب الرئيس “جمال عبدالناصر” بصورة متصاعدة ضد القضاة. وفي الوقت ذاته، كان الرئيس “عبدالناصر” يلح على المستشار »عصام حسونة« وزير العدل في أن يشكل تنظيما سريا من القضاة!! وكان الوزير غير مقتنع بهذه الطريقة لتعارضها مع أخلاق القضاة، فكلف عبد الناصر وزير الداخلية شعراوي جمعة بتشكيل جماعة قيادية لهذا التنظيم، فشكلها من عدد من رجال القضاء ومجلس الدولة، وإدارة قضايا الحكومة، والنيابة الإدارية، واسماهم هيئات قضائية، وهي واقعة حدثت لأول مرة في تاريخ القضاء المصري منذ نشأته وحتي هذه الكارثة التي أطلق عليها “مذبحة القضاء”.

بعد تعيين الوزير »محمد أبونصير« قام بتشكيل تنظيم سري من القضاة!! وكانت نواة هذا التنظيم وجود قضاة أشقاء بعض الوزراء آنذاك، وأخذت هذه الجماعة تعقد جلسات دورية برئاسة الوزير »محمد أبونصير« الذي بذل جهداً كبيراً في سبيل تكوين تنظيم طليعي داخل القضاء، واستعان بتكوينه ببعض الذين خضعوا لنفوذه ونفوذ عملاؤه، وهنا تزايدت التقارير اليومية علي مكتب الرئيس »عبدالناصر«. وناقش الوزير مع اللجنة العليا هذا التنظيم، وطالب الجواسيس في توصياتهم بإعادة تشكيل هيئات القضاء، ودمجها في النيابات الإدارية وإدارة قضايا الحكومة، وإجراء التنقلات بين القضاة إلي هاتين الجهتين، وإلي غير ذلك من المقترحات الهدامة والمبالغات الجسيمة في حق الشرفاء من رجال القضاء.

ظل الجواسيس يكتبون التقارير ضد رجال القضاء الشرفاء إلي أن قام الرئيس »عبدالناصر« بتكليف د. جمال العطيفي بصياغة مجموعة قرارات جمهورية لتنفيذ المذبحة، وبدأت العجلة تدور، حيث تم تشكيل لجنة في رئاسة الجمهورية لتحديد الأسماء الواجب فصلها، والأسماء التي سيكتفي بنقلها إلي جهات حكومية أخري. وأعهدت اللجنة تلك الكشوف من واقع تقارير التجسس التي كانت تفيض بالحقد علي القضاة والشرفاء، ولا تنسب لهم أكثر من أنهم أعضاء الثورة المضادة الذين يقذفون في حق الرئيس عبدالناصر في جلساتهم اليومية بنادي القضاة. فصدرت قرارات المذبحة من »عبدالناصر« باعتبارها قرارات جمهورية، وتضمنت حل مجلس إدارة نادي القضاة، وتعيين مجلس آخر لإدارته من بين شاغلي المناصب القضائية بحكم وظائفهم.

كانت هذه المذبحة على أية حال كانت سبة في جبين النظام كله، ووصمة عار في نظام يوليو في 1952 والذي تأخر بالبلاد وتخلف عن ركب الحضارة العالمية، وأعطي في المنطقة العربية أسوأ قدوة للحكم.

لقد طغت السلطة التنفيذية علي كل السلطات لدرجة أن أحكام القضاء كانت لا تنفذ خلال الحكم العسكري، خصوصاً التي كانت تصدر علي غير هوي الحاكم فتعتبر هذه الأحكام لا قيمة لها وكانت لا تنفذ وأيضاً لا يعاقب أي مسئول عن عدم تنفيذها(3).

ويؤكد المستشار عادل عيد في مجلة نصف الدنيا عام 1980م قوله: كان المخطط الأول أن ينضم رجال القضاء إلى الاتحاد الاشتراكي، وكتب علي صبري عدة مقالات في صحيفة الجمهورية يطالب بذلك، وكانوا يعتبرون القضاء ليس سلطة ولكنه مرفق من مرافق الدولة مثل مرفق المياه والنظافة والكهرباء، حتى أنه عندما كانوا يتحدثون عن القضاء يقولون في تصريحاتهم مرفق القضاء، بل يرون أن القاضي موظف ويجب أن تكون أحكامه في ظل الشرعية الاشتراكية، ولهذا يجب أن يختلط القاضي بتحالف قوى الشعب العاملة”(4).

وتظل السلطة العسكرية التنفيذية مسيطرة على القضاة في كل أحكامهم حيث ساعدهم كثير من القضاة على ذلك بأن سلموا لهم زمام أمورهم، حتى أصبحت الأحكام تملى على القاضي لا أن تستقر في وجدانه كما يدعى.

الغريب أن السيسي سار على نهج عبدالناصر في كل شيء ضد إرادة الشعب والحريات والديمقراطية وذلك بخلاف السادات ومبارك الذين كانوا يتعاملون بذكاء مع الشعب والمؤسسات.

مذبحة الصحافة على يدي السيسي

«مصرع السفاح عبدالناصر في باكستان» بهذا الخبر الذي نشر على الصفحة الأولى بصحيفة الأخبار، وخطأ مهني من الصحيفة أصدر عبد الناصر قرارا– غاضبا – بقانون تنظيم الصحافة، حتى وصف الكاتب عباس الطرابيلي الأمر بقوله: وسواء كان سبب تأميم الصحافة حادث هذا السفاح أو حكايات أين تاتا زكى.. فإن الرئيس عبدالناصر كان يخطط لعملية التأميم.. لكنه كان ينتظر الفرصة.. وجاءته بخطأ جريدة الأخبار عن «مصرع السفاح عبدالناصر في باكستان»!!.. ودخلنا أيامها دوامة رهيبة من إعلام السلطة.. إعلام التوجيهات!! (5).

عمل السيسي منذ اليوم الأول على وضع الصحافة والصحفيين في حضانة سلطته ليأتمروا بأمره، ويكتبوا ما يملي عليهم، وبذل في ذلك بعض المجهود – حيث سارع بعض الصحفيين للسجود تحت قدمه وتنفيذ قراراته طمعا في ذهب المعز، غير أن البعض حاول الدفاع عن حرية الصحافة وعن سلالم نقابة الصحفيين الذي ظل ملاذا للصوت المعارض وللمظلومين، مما جعل السيسي يستشاط غضبا ويغض الطرف عن هجوم الشرطة على مبني نقابة الصحفيين واقتحامه، كهجوم هولاكو على بغداد.

حيث قالت صحيفة وول ستريت جورنال، اقتحام الشرطة المصرية لنقابة الصحفيين في الأول من مايو 2016م، فى مداهمة غير مسبوقة فى تاريخ النقابة، والقبض على اثنين من الصحفيين، تظاهرا ضد قرار التنازل عن تيران وصنافير أثار دعوات متزايدة لإصلاح وزارة الداخلية.

ونددت النقابة بالاقتحام باعتباره عملا وحشيا ووصفته بأنه عدوان صريح ضد كرامة الصحفيين ونقابتهم، فى حادثة هى الأولى من نوعها فى تاريخ مصر. وتقول الصحيفة إنه على الرغم من القبض على عشرات الصحفيين خلال العام الماضى إلا أن هذه هى المرة الأولى التى تقوم فيها الشرطة بمداهمة مبنى النقابة منذ تأسيسها قبل 75 عاما.

لم يحترم السيسي الصحافة يوما ما، ويتضح ذلك من مواقف نظام السيسي – وفي القلب الشرطة المصرية – حيث أطلق العنان للسلطة التنفيذية في محاولة تركيع وإذلال كل المؤسسات المدنية والقضائية والتشريعية، حتى أن علي أبو هميلة يصف الوضع بقوله: إذا كنت ممن يعملون في الصحافة والإعلام في مصر فأنت في مرمى نيران نظام السيسي بشكل دائم، وتوقع أن تتعرض للاعتقال أو الحبس سواء كنت داخل مقر موقع إخباري تعمل فيه، أو تجلس برفقة زملاء على مقهى في أحد الأحياء، أو في منزلك يزورك ضباط أمن الدولة فجرا للقبض عليك.

فمنذ بداية حكمه يرى السيسي أنه غير محظوظ بإعلامه، ويحسد عبد الناصر على إعلام الستينيات، وربما كانت فكرة الإعلام العسكري (إعلام الشؤون المعنوية) مسيطرة عليه.

إن كراهية السيسي للصحفيين والإعلاميين تأتي، من وجهة نظره، من التعليم، الذي يرى أنه لا مجال له في وطن ضائع والديكتاتور داخل السيسي يعادي العلم(6).

لقد أقدم السيسي ونظامه على عمل مذابح لكل شيء في الوطن، فقد ذبح المواطن في السجون والقطارات والطرقات المهلكة، والغلاء، وبالرصاص حتى بالطيران، كما قام بذبح جميع المؤسسات التي سجدت كلها له طمعا في ذهب المعز.

………………………………………

المراجع

1-    الدكتور فاروق عبد المعطي: العز بن عبد السلام – سلطان العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت، صـ 11.

2-    عبد اللطيف البغدادي: مذكراتي، الجز الأول، طـ1، المكتب المصري الحديث،1977م، صـ80.

3-    ياسر ثابت: العصا والمطرقة.. صراع السلطة والقضاء، دار الكتب المصرية، 2015م، صـ90.

4-    ياسر ثابت: جمهورية الفوضى : قصة انحسار الوطن و انكسار المواطن، كتاب ميزان، 2008م، صـ70.

5-    عباس الطرابيلي: تأميم الصحافة ومصرع السفاح، المصري اليوم، 24 /5 / 2019م، https://bit.ly/2v9v3mR

6-    علي أبو هميلة: لماذا يعادي السيسي الصحافة والإعلام؟، 2/12/ 2019م، https://bit.ly/2ThysYD