..المؤسس عثمان وسيف الله

لا ريب أن أدب الصورة الناجح يحقق خدمة عظمى في معركة الوعي، وإيقاظ الأمة باستعادة أمجادها وقيمها الإسلامية الرفيعة، كانت الدراما التركية في صورتها العاطفية المتأثرة بالقيم الغربية المادية الحسية تحقق انتشاراً دعائياً كبيراً على مستوى العالم منذ سنوات، وتستقطب عدداً هائلاً من المشاهدين وخاصة الشباب في العالم العربي، ومع أن المسلسلات العاطفية لقيت انتقاداً كبيراً، بحكم ما تقدمه من علاقات متحررة، وتشويه لصورة المسلمين الفاتحين والخلفاء من بني عثمان، فقد جذبت بعض المنتجين وصناع الدراما العربية لتقليدها والسير على منوالها لدرجة استنساخ بعض المسلسلات طبق الأصل مثلما حدث مع مسلسل اسمه "عروس بيروت"، الذي قلّد مسلسل "عروس إسطنبول".

كان تأثير المسلسلات التركية العاطفية على الشباب العربي كبيراً، لدرجة أغرتهم بزيارة الأماكن التي يتم فيها التصوير، والاستمتاع السياحي بروعتها وخضرتها وجمالها، وتحولت أسماء الممثلين والممثلات والأماكن التركية إلى مفردات على ألسنة شبابنا وفتياتنا، بل أضحى حلم كل منهم أن يكون له زوج أو زوجة تشبه واحداً من أبطال الدراما التركية العاطفية!

لكن اختلف الأمر حين ظهرت المسلسلات التي تعتمد على التاريخ وروح الإسلام، فقد حدث انقلاب كبير، حوّل المسألة من قصص الحب والغرام والجمال والوسامة، والملابس المثيرة، والعلاقات المتحررة بين الرجل والمرأة، والسيارات الفارهة والحدائق الغناء والقصور الفاخرة، إلى مجال مخاطبة العقل وصراع القيم وبناء الأمم، ومواجهة الغزاة المعتدين، وكشف مؤامرات الأعداء التاريخيين، ومخططاتهم في تأصيل الخيانة، وتفكيك الدول وإثارة الفتن، وسرقة الثروات والمستقبل والأمل.

وأنتج أدب الصورة الجديد مسلسلات "قيامة أرطغرل"، و"السلطان عبدالحميد"، و"كوت العمارة".. وغيرها، التي شهدت إقبالاً منقطع النظير في شتى أنحاء العالم، لدرجة أن بعض المشاهدين من عقائد أخرى دخل الإسلام ونطق بالشهادتين تأثراً بالمواقف الإسلامية الإنسانية التي عبَّر عنها هذا الأدب في فنية رائعة وجمالية عظيمة.
لا شك أن وقوف الدولة التركية على أعلى مستوى ودعمها لبعض هذه الأعمال كان من وراء ظهورها في أفضل صورة أدبية درامية!

الانتقال من أجواء الحب والغرام إلى مجالات الصراع القيمي والقتال بين الحق والباطل كان مثيراً للغاية، فقد ظن بعضهم أن الدراما الجادة لا جمهور لها، ولن تحظى بالاهتمام من المشاهدين، ولكن النتيجة كانت على العكس، فقد حقق أدب الصورة الجادة مشاهدة عالية ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم أجمع، وخاصة في أمريكا اللاتينية التي دفعت "مادورو"، رئيس فنزويلا، إلى القول: إن مسلسل "قيامة أرطغرل" سيدفعه إلى دخول الإسلام! ولم يكن "مادورو" مبالغاً، فقد أعلنت بعض الأسر هناك -كما سبقت الإشارة- إسلامها على يد بعض ممثلي المسلسل نتيجة تأثرها بما رأته من أخلاق الإسلام وقيمه وتشريعاته التي تجلت في العدل والرحمة والتكافل والإنسانية والدفاع عن المظلومين.. وغيرها.

"أرطغرل" ووحدة الأمة

مسلسل "قيامة أرطغرل" ركز في ثناياه على فكرة توحيد الأمة الإسلامية من نقطة الصفر كما يقال؛ من القبائل، إلى الإمارات، إلى الدولة، والقضاء على الخونة وضعاف النفوس الذين يؤثّر فيهم الذهب وحب المناصب والزعامة والركون إلى الرفاهية والاستسلام، وهي أمور تعيشها الأمة الإسلامية اليوم بصورة وأخرى.

ومع شغف الجمهور العربي بمتابعة أدب الصورة من خلال الدراما التركية المتكئة على قيم الإسلام والتاريخ؛ فإن الشاشات العربية الرسمية وقفت منها موقفاً معادياً باستثناء شاشة واحدة، واجتهدت بعض القنوات الخاصة في تقديم الحلقات، واستطاعت الشبكة الضوئية عبر "يوتيوب" أن توفر فرصة المشاهدة لكثير من الشباب.

لا ريب أن أدب الصورة ذا المضمون التاريخي الإسلامي ضغط على الوجع الذي يستشعره بعضهم، فوقفوا منها موقفاً غير ودّي؛ وهذا ما دفعهم إلى إنتاج مسلسلات موازية تفسر التاريخ تفسيراً شعوبياً عنصرياً، يكرس الفرقة ويشعل البغضاء والخلاف بين أمة الإسلام، ويعتمد على تزوير التاريخ أو في أحسن الأحوال يروج لروايات غير موثوقة، وهي أعمال لم تنجح فنياً ولا جماهيرياً، مع أنها تكلفت كثيراً من الأموال والدعاية.

بعد أن استغرق عرض مسلسل "قيامة أرطغرل" خمسة مواسم أو خمس سنوات، ورأى الناس من خلاله كيف نمت فكرة الكيان الإسلامي القوي المنتصر الذي تشكّله مجموعة قبائل مؤمنة بالإسلام إيماناً حقيقياً، حيث تستقر في أرض أكثر خصوبة وعطاء، ويتجاوز معظم أبطال المسلسل سن الشباب والكهولة، وينهض عثمان بن أرطغرل (مؤسس الدولة العثمانية) ليكمل مسيرة أبيه، ويواصل رحلة التوحيد والجهاد والبناء وإقامة العدالة؛ في طريق صعب مليء بالأعداء والخصوم والخونة والصراعات الداخلية.

"عثمان".. المؤمن الشجاع

ظهر في المسلسل الجديد (المؤسس عثمان) بحكم تتابع الأجيال بعض أفراد المسلسل الأول (أرطغرل)، منهم المحارب الشهير "بامسي" الذي يقاتل بسيفين، والمحارب "عبدالرحمن" (حارس أرطغرل)، والسيدة "سيلجان" (زوجة شقيقه جوندوجو)، بالإضافة إلى الشقيق "دوندار"، والابن "غوندوز"، وشقيقه "عثمان"، ظهر هؤلاء في أوضاع تتناسب مع أعمارهم، فضلاً عن الشخصيات التي استجدت من الجيل الجديد بفعل تغيّر الزمان والمحاربين والسادة، ومن أبرزها شخصية "أديب علي" -عالم الدين البديل لـ"ابن العربي"- رمز العقل والعلم والحكمة، وابنته "بالا" -رمز المرأة المسلمة التي تحمل رسالة الإسلام بالمفهوم الصحيح المتسامح- وقد تزوجها "عثمان" وتوازي شخصية أمه السلطانة "حليمة" التي أعانت زوجها "أرطغرل" على طريق الجهاد.

هناك فريق القلعة البيزنطية الصليبية بخبثه ومؤامراته ومخططاته، وأفراده متعصبون مخادعون ماكرون تقودهم الأميرة الصليبية "صوفيا" التي تمارس دوراً خطيراً بالاغتيالات والفتن وتجنيد الخونة وتكره المسلمين أو من تسميهم الأتراك كراهية، ولكن غايتها طرد الأتراك من وطنهم وخداعهم باتفاقيات زائفة، وتصفية المحاربين الأوغوز، مستغلة طموح بعضهم للزعامة، والمهادنة والاسترخاء والدعة، والفرح بما تدره التجارة في الأسواق وصناعة السجاد، وصراع "دوندار" مع "عثمان" ابن أخيه على الزعامة والقيادة، ولكنها تنهزم في النهاية وتقتل على يد "عثمان" الذي كان يتصدى لمكرها وتحالفاتها وألاعيبها، ويستولي على قلعتها، ويرفع عليها الراية الإسلامية.
لقد استطاع "عثمان" أن يقضي على القائد المغولي الذي هدد المنطقة، وأتباعه من المغول والخونة، أو عشاق الذهب، ولقي في سبيل ذلك متاعب وواجه انكسارات، ولكنه لم يستسلم أبداً، كلما وقع نهض، وأفاد من أسباب الوقوع كي لا تتكرر، ولم يكن السيف وحده سبيله، بل كان العقل والتفكير والتخطيط والقلب الشجاع قبل السيف وبعده دائماً، ولهذا انتصر وصدح الأذان في كل مكان حرّره.

يعالج المسلسل في ثناياه جانب الصراع المتعلق بالمرأة داخل القبيلة، ويكشف عن صورة مشرقة للمرأة التي تساعد على الجهاد وترميم العلاقات بالنصيحة والحكمة والتوعية، وأخرى معتمة تؤجج الصراعات بالغيرة والحماقة والأنانية، "بالا ابنة أديب علي" نموذج للأولى، و"زهرة"، زوج "دوندار"، نموذج للأخرى، أما "صوفيا" المرأة الصليبية فهي نموذج للمرأة الأفعى.

بيد أن المسلسل في جوهره يلح على معالجة فكرة الخوف من العدو والخسارة في القتال ويبرز موقف المؤمن الشجاع، الذي ينهض بإعداد أقصى ما يستطيع من قوة وتدريب وعتاد وتنظيم وتخطيط، مع استخدام قدراته العقلية والفكرية والذكاء في تقدير المواقف التي يكون فيها السلاح عنصراً حاسماً، أو الحيلة التي تعوض ما يعجز عنه السلاح، ثم يتوكل على الله وحده، دون إغفال فكرة الخيانة بوصفها سبب بلاء الأمة، وكأن المسلسل يذكّر الأمة المهزومة بواجبها إزاء أعدائها، وما ينبغي أن تقوم به لتطهير صفوفها.

تتبلور على امتداد الحلقات التي انتهى بثها في منتصف هذا العام (2020م)، رحلة البطولة الصعبة لكيان إسلامي قوي ينهض للقضاء على المغول وهزيمة الدولة البيزنطية، وقهر وجودها العدواني، وإيقاف جرائمها العنصرية وتحرشها بالمسلمين.

بطولة تحتاجها الأمة

المفارقة، أنه على الجانب العربي تناثرت بعض الأخبار عن رغبة جهة ما في إنتاج مسلسل يذاع في العام القادم عن خالد بن الوليد بعنوان "سيف الله"، يجلّي بطولاته وانتصاراته وإسلامه وإخلاصه لربه ودينه وأمته، اعتماداً على كتاب "عبقرية خالد" للأستاذ العقاد رحمه الله، فإذا بعاصفة هوجاء في الصحف ووسائل الإعلام تهب من جانب خدام الغرب وصنائع اليهود يشعلها الشيوعيون وأشباههم، تندد بالمسلسل، وترفض إنتاجه.. لماذا؟ لأنه في زعمهم يعني استعادة الغزوات والفتوحات، وصورة القائد المحارب المقاتل في سبيل انتشار الدعوة، وتدعيم الخلافة الإسلامية!

ويطرحون بديلاً هو استدعاء التاريخ الفرعوني؛ مثل أحمس أو رمسيس الثاني أو حتشبسوت! ويذهبون إلى أبعد من ذلك -كراهية لسيف الله وشجاعته وعبقريته- فيقترحون على مؤلفي الدراما الذين تستهويهم الشخصيات الإسلامية في صناعة الدراما، بدلاً من خالد بن الوليد، أن يقدموا ابن سينا، أو ابن الهيثم، أو الخوارزمي.. وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين قدموا إضاءات في الثقافة الإسلامية، ويتساءلون: لماذا الالتفات إلى شخصيات الخلفاء والحكام والقادة، دون العلماء وأصحاب الفكر والمعرفة، الذين تركوا بصماتهم على الثقافة الإنسانية كلها؟

وهو قول حق أريد به باطل! تجاهل هؤلاء الكارهون لخالد بن الوليد أن الدراما قدمت بالفعل سهرات وحلقات عن هؤلاء الأعلام وغيرهم، ونسوا أن خالد بن الوليد يمثل البطولة التي تحتاجها الأمة الآن في وجه من يحرمون أوطاننا الممزقة استقلالها وحريتها ووحدتها، ومن يغتصبون فلسطين ويحتلون القدس ويحلمون بالنيل إلى الفرات، ويؤكدون على استعباد أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو ما يجيب عن سؤال: لماذا خالد بن الوليد اليوم؟!

قال ممثل شاب: "سيف الله" مسلسل يتحدث عن أصولنا العربية ويشهد ملحمة تاريخية بعد تراجع دور الدراما المصرية في صناعة الأعمال التاريخية والإسلامية، واستطرد الممثل: إننا نتحدث عن سيرة صحابة وشخصيات هم أساس في أصول الدين الإسلامي.

وأضاف: إن خالد بن الوليد رسالة لنشر الأفكار الصحيحة التي نأمل إيصالها للجمهور، وأتمنى أن يكون بداية لصناعة هذه النوعية في الدراما المصرية وخاصة الرمضانية فيما بعد، وأوضح أنه "لا بُد أن تكون نفسك اللوامة هي مرجعيتك التي ترشدك الصواب من الخطأ، لأن النفس دائماً ما تخدع الإنسان وتخلط دائماً ما بين الغرور ورغبتك في فعل الصواب".

ومع أن خصوم الإسلام انتصروا لبعض الوقت في تنحية مسلسل خالد بن الوليد ووقف إنتاجه، فقد انتصرت إرادة الخير أخيراً، ويجري الآن تصوير المسلسل، ويوشك على الانتهاء ليقدم نموذجاً تحتاجه الأمة في وقت العسرة هذا.

إن أدب الصورة الجاد يجعل الحديث عن المؤسس عثمان، وسيف الله خالد بن الوليد، مرحلة جديدة من مراحل الصراع في معركة الوعي لتشكيل وجدان الأمة بتاريخها المضيء وقيمها المنيرة، أملاً في استعادة حريتها وكرامتها واستقلالها، ودينها المختطف.