تطلع علينا شمس أول محرم ويومها يهيب بالمسلمين "يا ابن آدم: أنا خلق جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة" فماذا أعددنا لعامنا الجديد بعد هذا النداء الصادق من ناصح مخلص وفيّ؟ لم تكن هجرة المصطفى- صلوات الله وسلامه عليه- نتيجةً لفساد المجتمع الذي قامت دعوةُ الإسلامِ فيه، فالدعوة الإسلامية على لسان نبي مرسلٍ لا تكون إلا لمجتمعٍ فسدت أوضاعُهُ، وتضاعفت شروره؛ رغبةً في إصلاحه، وإقامةَ معالم كل خير فيه، حتى يستقيمَ حالُهُ، ويسعد أهله بنوره، فإن لم تكن هذه هي الغاية المقصودة لَمَا كان هناك للرسل والأنبياء برسالاتهم ودعواتهم من مبرر ولا داعٍ.

تتعدَّد الآلهة عندهم فتطالبهم دعوةُ الإسلام بعبادة الواحد الديان، ويشيع الظلم فيأمرهم ربهم على لسان رسوله بعدم التظالم وإشاعة الحرية وبسط المساواة، ويتعالَى البعض على البعض معتزِّين بالمال والجاه والمكانة، فيحذِّرهم رسولهم من التنابز بالألقاب، ويبين لهم أنه لا تفاضلَ إلا بالعمل الطيبِ، ويقدِّم الإنسان الخيرَ لأخيه الإنسان بعيدًا عن الاستغلال والاستعباد، فالداعية لا يقوم إذن بدعوته إلا في وسط سادة العسف والفساد، فكيف إذًا يجوز للداعية أن يهجر موطنه لفساده وسوء حاله، بل الصبر على تأدية الرسالة حتى تؤتي ثمارها مهما قامت في طريقه العقبات، وانهالت عليه الويلات، وتنكَّر له أولئك الذين جاء لهدايتهم وإشاعة كل صور التعاون والحب والتكافل بينهم، فهل يسوغ لنا بعد ذلك أن نهجر موطننا لما شاع فيه من شر وسوء؟! لا أظن.

ولقد كان من أسباب الهجرة اشتداد الأذى بالداعية والمؤمنين معه، وضِيق مكة بالدعوة، فلا بدَّ لهم من موطن يبلغون فيه ومنه ما كلِّفوا به من رب العالمين، ولزامًا أن نراعي هذا المعنى تمامًا مُفرِّقين بين فساد المجتمع وبين الإمعان في الأذى الذي يلحق الداعيةَ ومَن معه من المؤمنين الذين آمنوا بدعوته.

الدعاة والمجتمعات
إنَّ الهجرةَ إذا تمت لا تكون لينعزل الداعيةُ ومن معه عن المجتمع الذي ارتحلوا إليه ثم حلوا فيه مستطيعين فيه أن يؤدُّوا واجبَهم وهم على شيءٍ من الأمن والاطمئنان، على المهاجر أن يعلم علم اليقين- اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم- أنَّه هاجر ليواصِلَ العمل وليبلّغ الرسالةَ وإلا فما بلَّغ الرسالة، أليس هذا أمر الله لرسوله عليه الصلاة والسلام؟! ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 67).. فأي مسلم بعد هذا الأمر الواضح الصريح يبتعد عن تبليغ دعوته، خاصةً إذا أتاح الله له من الظروف ما يستطيع معه أن يبلِّغ الرسالةَ على أي صورةٍ من الصور؟!

والهجرة كما يدل اللفظ انتقالٌ من حالٍ لحالٍ، ومن مكان إلى مكان، فهي بهذه المثابة حركة، والحركة عنصر من عناصر الدعوة الإسلامية لا تتم إلا به، فإذا كانت الهجرة حركةً فهي ليست فرارًا بمعنى كلمة الفرار، بل هي عملٌ، والإسلام قول وعمل لا ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، فمن لم يقل كلمةَ الشهادتين فلن يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ومن قال بغير عمل فما ذلك بالإسلام؛ لأنه ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.

لم تكن الهجرة على التحقيق فرارًا ولا هزيمةً ولا قعودًا عن الإرشاد إلى الله ودينه، إنما كانت الهجرة قيامَ دولةٍ سادت الدنيا بأسرها وانتشارَ دعوةٍ شملت الكونَ كلَّه، واتساعَ حركةٍ ماجَ بها الوجود.. حياةً وحضارةً وعزةً ورفعةً وعلوَ شأنٍ.

الهجرة وليدةُ تفكيرٍ طالَ به العهد وأعدت له العدة، ونُظِّمَت له الطرق، ولم تكن فرارًا من شقاءٍ إلى نعيم، ولم تكن تركَ جهدٍ إخلادًا إلى راحة، لم تكن سببًا من ذلك على الإطلاق، بل إنَّ جهود المسلمين بعد الهجرة تضاعفت، ومسئولياتهم كبرت واتسعت، وعلموا أنهم دعاة الناس جميعًا إلى الهدى والرشاد.

إن الهجرة لجوء إلى كل حركة تخدم الدعوة، وهجرة من أسلوب إلى أسلوب ومن خطةٍ إلى خطةٍ، وتفتيح لمسالك التحرك المثمر، فالداعية الواعي إذا تعثَّرت به خطة لجأ إلى غيرها؛ سعيًا إلى الله وحرصًا على رضاه واستجلابًا للنتائج الطيبة، هذا مع الالتزام الكامل بأصول دعوته وفروعها، غير مبدل بحجة التطوير ولا مغيِّر بحجة التجديد، فما في هذا الدين من قصور يصلحه التطور، وليس فيه ما يبلى فيحتاج إلى تجديد.

الإسلام أصول وفروع، وكلها واجبة الالتزام والاتباع، أما محاولة النَّيل من العقيدة بحجة المحافظة على الأصول والتغيير في الفروع فهذا لا يكون في الإسلام أبدًا؛ لأنه من يوم أن نزل على هذه الأرض فهو صالح للناس جميعًا على مختلف أوضاعهم وصفاتهم ولهجاتهم وأجناسهم؛ لأنَّ محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول الله إلى الناس جميعًا، ويوم أن هتف بدعوته في قلب الجزيرة العربية لم يُنَادِ بها العربَ أو العجمَ، وإنما خاطبَ بها كلَّ إنسانٍ على وجه الأرض ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف: من الآية 158).

بين العزة والهوان
وكما أنَّ الإسلام جاء ليصلح القرون الأولى، فقد جاءَ ليصلح القرون كلها حتى تقوم الساعة، فالقول إنه ما عاد يصلح لزماننا هذا هو غباء في العقول، وضلال في متاهات لا أوَّل لها ولا آخر.. إنَّ الهجرةَ درس وعَاه أسلافنا الأمجاد كما وعوا كل الدروس، فسادوا وعزُّوا وقادوا الدنيا ولم يُقَادوا، ولم نَهُن على الناس إلا يوم أن ضللنا عن هذا الدرس وغيره من دوس النبوة، فتناوشنا الأعداء، وتطاولوا علينا حتى من لا يستطيع الدفع عن نفسه، فعلينا باستظهار الدرسِ والدروسِ بعيدين عن الطنطنة الفارغة والحماس في دنيا الأقوال، فإنَّ الأشد إسراعًا إلى القتال هو أقلهم حياءً من الفرار.

وعلى الشباب ألا يدع الهجرةَ أو أي درس من دروس النبوة يمر به ساهيًا ساهمًا مفرطًا مضيعًا، بل لينتهز شبابه قبل أن يعمر فينتكس في الخلق، وليستعن بحيويته على دفع دماء الدعوة النقية الطاهرة في شرايين المجتمع الذي يعيش فيه ليسموَ به فوق الضياع والتمزق، ويتجه به إلى النصر الصحيح والعزة والكرامة ويمسح من صفحات تاريخه كل بقعة سوداء لوَّثها بها كل عدوٍ غاصبٍ أو دخيل.

إنَّ الطريقَ رسمه الإسلام وحدَّد معالمه، والهجرة درسٌ على الطريق وما أكثر الدروس، وشبابنا مطمع الآمال فليمضوا في الطريق مجاهدين ومثابرين رافعين لواء الدعوة عاليًا خفاقًا عزيزَ الجانبِِِِِِِِ منيعَ الرحابِِِِِِِ، وليقوُّوا سواعدَهم ويرسِّخوا إيمانَهم تخضع الدنيا لهم وليعملوا منتظرين النصر من الله ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾ (محمد).

إنَّ الهجرة ماديةً كانت أو معنويةً تأتي بالخير والفتح المبين ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)﴾ (النساء).

2- طريق الهجرة والدعوة ليس مفروشًا بالحرير:
هذه الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة- على ساكنها أفضل صلاة وأكمل تسليم- كانت مقررةً منذ الأزل في سابق علم العليم الخبير، فكان لا بد أن تكون صورةً وزمنًا ومكانًا ليقترن العلم بالعمل.

آذى المشركون أولوا الجاه والنفوذ في مكة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأوائل- عليهم رضوان الله- إيذاءً بالغًا في النفس والأهل والمال والولد إيذاءً عصفَ بقلب فاطمة الزهراء- رضي الله عنها- عصفًا أبكاها يوم أن رأت آثارَ الإيذاءِ دمًا وجروحًا على وجه أبيها عليه الصلاة والسلام، ورأى الأب الرحيم دموعَ الألم والأسى تنحدر على الوجنات الطاهرة، فما زاد على أن قال: "أتبكين يا فاطمة؟! والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى عمان لا يخشى على نفسه إلا الله والذئب على غنمه" أو كما قال.

الإيمان بصدق وعد لله
لم يكن طريق الرسالات والدعوات مفروشًا بالدمقس والحرير، ولكنه كان- وسيظل- مميزًا بالأهوال والأعاصير، ولأن كان القائمون على الرسالات قد حل بهم طوفان الأذى رغم مكانتهم عند ربهم، فكذلك قد لحق بصحابتهم وتابعيهم من هذا الضرِّ ما لحق بهم، فهذا أبو بكر الصديق آمن الناسُ بصحبتِه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُضرَب حتى تختلط معالمُ وجهِهِ، وهو يذود عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصيح فى وجه المعتدين: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله" واضحًا غيرَ مستخفٍ بما يؤمن به.

وأبدى الصحابة- رضوان الله عليهم- من التمسك بالدعوة والاستبسال في الذود عنها والتفاني في سبيل الإعلام بها إلى مستوى التعرض لأفدح الأخطار راضين سعداء صابرين ومصابرين.

فهذا عبد الله بن مسعود (وهو أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم) يجهر بالقرآن على ملأ من المشركين، فينهالون عليه ضاربين حتى تسيل دماؤه، ولما رأى أصحابه ما عليه من إيذاء قالوا له: ما كان أغناك عن ذلك؟! فكان رده المفحم الباهر: "والله لأغادينهم به الغداة" لم يفزع لما أصابه ولم يأسَ عليه، ولكنه يصمِّم ويعالن المشركين بالقرآن، لا يوهن الإرهابُ من عزيمته، ولا يقللُ من تصميمه على تبليغ دعوته.

إنه مؤمن، والمؤمن الوثيق الصلة بربه لا يرهب الشدائدَ، ولا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه، ألم تقرأوا أنَّ عثمانَ بنَ مظعون كان داخلاً في جوار الوليد بن المغيرة، فسلِم من أذى المشركين تقديرًا لذلك الجوار، فلما رأى ما عليه من الأمن والسلامة، ورأى ما عليه رسول الله- عليه الصلاة والسلام- وإخوانه من الإساءة والاعتداء قال يحدِّث نفسه الأبيةَ: "أروح وأغدو في جوار مشرك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته يعذَّبون، والله ما هذا من الإيمان في شيء؟ "وانطلق إلى الوليد يرد عليه جواره الحامي المنيع، وعلِم المشركون أنه لم يعد ممتَّعًا بذلك الحِمى، فانهالوا عليه ركلاً وصفعًا حتى فقد إحدى عينيه، فلما عُتب عليه، قال الرجل المؤمن الصادق المخلص المحب المضحِّي في سبيل الدعوة بكل شيء: "والله إن عيني السليمة في حاجة لما أصاب أختَها ابتغاءَ وجه الله".

ثم يتعرض لفتنة الأمن والسلامة مرةً أخرى؛ إذ جاءه الوليد يعرض عليه العودةَ إلى جواره، ولكنه كان هو الرجلَ الكاملَ الرجولة، المُعِرض عن كل مغريات الحياة سعيًا في سبيل الله، حتى ولو راحت حياته، وهي أغلى على الناس من كل شيء.. كان ردُّه الرائع الذي سُجِّل له في صفحات الخلود: "لا حاجة لي بجوارك، جوار الله خيرٌ لي من جوارك".

وهكذا أنجاه إيمانه من فتنة الأمن والسلامة التي ينشدها الغافلون مهما دفعوا لها ثمنًا، هؤلاء الغافلون المدَّعون، الذين تراهم في الرخاء أسود الشرى، أعلى الناس صوتًا، وأبينهم خطابًا وأشدهم حماسًا، حتى إذا ما أبدى الشرُّ ناجذه، وكشرت المحنة عن أنيابها الداكنة، طارت قلوبهم شعاعًا، وساخت أقدامهم في خزي الانزواء، على مثل هذه الرجولة وهذه التضحية وهذا اليقين تقوم عزة الدعوات، وتنتصر وتسود، أما لو طلب كل مسلم السلامة لنفسه، ولم يبادل خصوم الدعوة النزال لخلا الميدان للطغاة الظالمين يصولون فيه ويجولون، لا رادعَ ولا مناضلَ ولا منكِرَ ولا حسيبَ، قد يكون من جراء الوقفة في وجه الظالم تعذيب وتشريد وتنكيل بل واغتيال كذلك، فما أثَّر ذلك على صاحب العقيدة الرجل وهو يكافح من أجل أشرف غاية وأسمى هدف؛ طلبًا لبالغ المثوبة التي لا تُحصى ولا تُعد ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: من الآية 10).

إنَّ طلب السلامة في مواقف الروع إن لم يقدرها صاحب الملك والملكوت رب العزة والجبروت لن يحصل عليها طالبها، حتى ولو تمرَّغ في قذارة المداهنة والنفاق، وقد حدث في العهد القريب غير البعيد أَنْ آثرَ بعضُ الدعاة السلامةَ على الفداء بالسير في ركاب الظالمين فلم يُغنهم ذلك الهوان من الله شيئًا، فنالهم من السجن والاعتقال ما نال غيرهم من الأُباة النافرين من الذلة المنكِرين للابتذال ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43)﴾ (العنكبوت).

اشتد الأذى بالمسلمين في مكة، وطال مداه، واستحكمت حلقاته، فكان لا بد من حركة، والحركة حياة الدعوات، وقبس نورها، وقوام أمرها، وسر نجاحها، وجوهر بقائها وسيرها واستمرارها جيلاً بعد جيلٍ، فكانت أول حركة من الحركات في سبيل الدعوة، هذه الهجرة المباركة، والهجرة: ترك الأهل والمال والولد.. المال.. يبسطه الرازق لمن يشاء، ويقبضه عمن يشاء، وقد مات عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود.. ماتوا وهم أثرياء الألوف والملايين وهم قد خرجوا من مكةَ لا يملكون شروى نقير ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)﴾ (النساء).

الأهل.. إن أُخوَّة الدين خير من أخوة الدم والنسب، وقد آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين من مكة والأنصار من المدينة، وصار لهم من الزوجات المؤمنات الصالحات ما قرَّت به عيونهم، وطابت به نفوسهم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71).

الولد.. إنَّ في الله عوضًا عن كلِّ فائتٍٍ، ولقد وُلد للزبير بن العوام في المدينة عبد الله وعروة ومصعب، ولعلي بن أبي طالب الحسن والحسين وابن الحنفية وغيرهم، ولأبي بكر وعمر وغيرهم كثير ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49)﴾ (الشورى).. المسكن.. لقد اغتنى المهاجرون في المدينة، وبنَوا البيوت، واحتازوا المزارع ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)﴾ (النجم).

الوطن.. وكل مكان ينبت العز طيب، ثم أي وطن هذا الذي يأسى عليه الإنسان إذا ظُلم فيه واضطُّهد وحورب وعُذِّب ودِيسَت فيه حرماته، وهُضمت فيه حقوقه.

لقد أصبحت المدينة وطنَ المهاجرين، فيها قامت لهم دولة، وارتفعت لهم راية، وقويت شوكة، ومن بين دروبها انسالوا انسيال السيل الغدق، ينشرون الإسلامَ أعزةً كرامًا فاتحين.

إنَّ الأهوالَ والصعابَ سمةٌ من سمات الدعوات الخيرة، وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا- مرشد الإخوان المسلمين الأسبق- فاقهًا لهذا المعنى تمامًا حين قال: "ستعذَّبون وتشرَّدون وتحاربون وتحبسون وتُقتَلُون، ويومئذ فقط تكونون قد بدأتم تسلكون طريق أصحاب الدعوات".. وقد صدَّقه الواقع، فقد حُلَّت جماعة الإخوان مرارًا، وسُجِن رجالُهَا وعُذِّبوا، ثم اغتيل هو نفسه، فماذا كانت النتيجة؟!

عادت الجماعة في كل مرة أقوى مما كانت ساعة الحل، واشتاقها الشباب للتفتح على إشراقة دعوة الله، يستوضحون أمرها، ويؤمنون بتعاليمها، ويتَّجِهون نحوها، ويتحدَّثون عن شهدائها في حب وإكبار، وبلغ صوتها مشارق الأرض ومغاربها، في غير ما عنف ولا تخريب ولا إرهاب، ولكن عن طريق الأثر الطيب، والأسوة المجيدة والقدوة اللامعة المضيئة، عن طريقٍٍ واحد ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية 127).

أُخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة فذهب إلى المدينة، وأُخرج المؤمنون منذ عهد غير بعيد من ديارهم وأموالهم وأهليهم إلى السجون والمعتقلات، فاعتبروها هجرةً إلى الله، لم يضيقوا بها، ولم ييأسوا على ما أصابهم، أخذوا لأواءَها وشدائدها أخذَ المؤمنِ الصابر الفاقه، إنها فترةٌ من فترات حياتهم، قضى الله في سابق علمه أن تكون على هذه الصورة، فأحسنوا استقبالها، وادَّخروا رصيدَها، وصبروا وصابروا معها، لم تتزعزع العقيدة في وجدانهم ولم تهتز، فبهم ثقةٌ، ولم يتبدل فيهم يقين، ثم كان ما كان.

إننا ما ذكرنا هنا أنَّ من المسلمين من تعرض لما تعرض له صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين الهجرة، لا نمنُّ فالفضل من الله وإليه، ولا ندلّ فإننا لا نبتغي من أحد جزاءً ولا شكورًا ، ولكننا نعرض الواقع الماثل، الذي ما يزال شهوده أحياءً، حتى يعلم شباب الجيل المؤمن أنَّ دينه حقٌّ يجب الثبات عليه.

إن الدعوة الإسلامية لو تعرَّض غيرُها من الدعوات لِما تعرَّضت له، ولو دُبِّر لغيرها من المكائد ما دُبِّر لها، ولو تحالف من القوى الطاغية على غيرها من الدعوات ما تحوَّلت عليها وضدها لكانت أخبارًا تُروى في صحائف التاريخ، ولكن دعوة الله باقية خالدة، لا تفنى ولا تتبدل، ولا تزول ولا تبلَى إلى يوم الدين﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).

ستظل المحاولات الضارية ٍتذهب وتجيء ضد الإسلام، وستظل قوى الشرِّ تحاول وتضغط على المسلمين في كل مكان على الأرض فيه مسلمون ليصرفوهم عن دينهم، ولكنَّ الزمانَ يسري في بطون التاريخ قرنًا بعد قرن حافلاً بما يُدَبَّر فيه للمسلمين، ومع ذلك سيظل المسلمون مسلمين رغم أنف الدنيا ومن فيها ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة من الآية 217).

فليقرأ المسلمون صحائفَ الهجرةِ مفكِّرين متعظين متدبرين عِبَرها، متفهِّمين دروسَهَا، ثم اجعلوها هاديًا لكم في كفاحكم إذا ألَمَّ بكم حدث، أو نزل بكم ظلم، أو نابتكم نائبةٌ، أو لاحقكم طغيانٌ، لا ضعفَ ولكن قوة، لا تتردد ولكن امضِ إلى الأمام ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35) ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)﴾ (آل عمران) ثم بعد هذا كله ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ (آل عمران: من الآية 111).

إذا ألموا كما تألمون فميزتكم عليهم أنكم ترجون من الله رضاءً وافرًا وأجرًا عظيمًا، وهم ليس لهم من هذا الخير الوفير حظٌّ ولا نصيبٌ، آراؤهم وأعمالهم ومكائدهم ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ (آل عمران: من الآية 117).

اقرأوا صحائفَ الهجرة ومثلها ومثاليتها، وتشبَّهوا برجالها، فذلك أعود عليكم بالنفع، اقرأوا تاريخَكم أولاً قبل أن تقرأوا تاريخ خصومكم، إنكم لو فعلتم حصَّنتم أنفسكم ضدَّ كل دخل قد يتسرب إلى أذهانكم.

والعام.. هذا العام، والعالم يموج بالأحداث الضخام، وقد أسفرت محاولات أعدائكم عن نواياهم السود، ووجهها الأصفر الكالح، هل تمرُّ ذكرى الهجرةِ كما مرَّت مثيلاتها من قبل.. كلمات تُرصُّ، وصفحات تُسطر، وأقوالٌ تُعاد وتُكرر، ثم صمت عميقٌ ولا شيء؟! أما آن للذين يؤمنون بنبي الهجرة- عليه الصلاة والسلام- أن يشعر العالم بوجودهم وبحرصهم على دينهم، وأن يُثبتوا للذين يستهينون بشأنهم ولا يأبهون بهم أنهم اليوم ليسوا كما كانوا بالأمس وأنهم استيقظوا ووعوا، وما عاد الوعيد والجبروت بالذي يثنيهم عن انطلاقهم.

اللهم إنك تعلم أنَّ الداعين إليك أبعد الناس عن التفكير في دنيا يصيبونها، أو التطلع إلى متعة يأملونها، إنهم لا يطلبون حكمًا، ولا يقصدون سلطانًا ولا مغنمًا.. اللهم إنك تعلم أنهم يريدون لدينك سيادةً، ولكتابك تحكيمًا، وللإسلام عزًّا، وللعالم أمنًا واستقرارًا ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)﴾ (الأنعام).

اللهم منك العون وبك الصون وإليك الوجهة وعليك المعتمد، والنصرة قدرتك، والهداية مشيئتك ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 126)، وعن طريق إرادتك وحدها السداد والتوفيق ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ (هود: من الآية 88).

عام مضى لا قدرةَ لنا على تغيير أحداثه، وعام بدأ، عهدنا فيه مع الله عمل متواصل وصبر متأصل، وإحسان متقبل ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ (الشورى: من الآية 23) وعلى الله قصد السبيل.

تراني قد وفيت للهجرة حقَّها؟ أبدًا وربِّ الهجرة، كلما ظننتني انتهيت، رأيتني وكأنني ابتديت، يتزاحم الفكر، وتنهمر العبر.

اللهم ربنا.. وَجهَكَ أردنَا، ودينَكَ أحببنَا، ورسولَكَ اتَّبعنَا، وبقرآنك اهتدينا، وفي سبيلك جاهدنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)﴾ (الحج).

-----

من تراث فضيلة المرشد الثالث عمر التلمساني