نشر موقع "ميدل إيست آي" تحقيقا أعده دانيال هيلتون، تحت عنوان "حقول الموت في ترهونة الليبية"، حيث كشف فيه عن جرائم الحرب التي ارتكبها مقاتلو قوات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر.

وتقع بلدة ترهونة الريفية على بعد 60 كيلومترا من العاصمة طرابلس. وتم العثور على حوالي 80 جثة استخرجت من مقابر جماعية، منها 56 جثة عثر عليها في مزرعة عائلة حرودة وحدها. ويعتقد المسئولون بوجود عدد أكبر من الجثث التي دفنت في حقول وبساتين ترهونة. ونقل هيلتون عن عمدة ترهونة، محمد علي القشير، قوله: "لدينا الكثير لحفره، ولم يتم حفر سوى 20 بالمائة من هذه المنطقة".

وأضاف: "لقد قتل ناس من كل قطاعات المجتمع، ودفنوا هنا، بمن فيهم طفل في سن العاشرة. ونعثر على جثث جديدة كل يوم. وتم دفن شخص بسيارته ويداه مقيدتان إلى عجلة القيادة".

ويبحث فريق الطب الشرعي عن تغيرات كيماوية في التربة، أو تلال من التراب، أو رائحة تنبعث من التراب، كأدلة على وجود جثث موجودة. ومن مقبرتين استخرجت جثث تحجر الدم فيها مع جثة الضحية المتحللة. ويقوم الفريق بنخل التربة؛ بحثا عن عظام أو كتل من الشعر، فيما تنبعث الرائحة الكريهة.

وعندما سيطرت حكومة الوفاق الوطني على ترهونة في 5 يونيو، اكتشفت قواتها 106 جثث وضعت في مشرحة المستشفى المحلي. واكتشفت الحكومة سريعا أن البلدة فيها عدد من المقابر الجماعية. وتعد مزرعة حرودة الأكبر من بين ثمانية مقابر جماعية، فيما تعتقد فرق التفتيش أن العدد قد يرتفع إلى 12 مقبرة.

ويقول محمد القشير، الذي عينته طرابلس لتسيير أعمال البلدية، إن عملية البحث عن الجثث في كل المواقع قد تستغرق عاما، وفي ظل عدم توفر المعدات الكافية والجيدة. مضيفا "من الناحية الدينية، فهذا ليس دفنا مناسبا، وهذه هي الطريقة التي يدفن فيه داعش ضحاياه، وهذه أفعال من يريدون تشويه الإسلام". وأضاف وهو ينظر إلى مقبرة استخرج منها 11 جثة: "كان القتل رسالة: حتى لو عارضت القتال في طرابلس، فإنك ستواجه الموت. وتم كل هذا بمباركة من حفتر وحلفائه".

وظلت ترهونة ولمدة خمسة أعوام تحت سيطرة عائلة الكاني أو ما تعرف بـ"الكتيبة 7"، والتي قامت في ظل الفوضى التي انتشرت في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي ببناء منطقة نفوذ لها أو إقطاعية. وكانت بالضرورة عصابة، لكنها اكتسبت أهمية جيوسياسية عندما اتخذها حفتر نقطة انطلاق لهجومه في العام الماضي على العاصمة طرابلس.

وفي فترة الحملة التي استمرت 14 شهرا، كانت ترهونة مركزا لعدد كبير من الفرق العسكرية التابعة لقوات حفتر. وشعرت عائلة الكاني المتحالفة مع حفتر بشكوك من السكان، ولهذا قامت بحملة قمع تركت تداعيات كارثية على أهل البلدة. وزاد النزاع والرهاب من الميول الإجرامية للعائلة. وأصبح قمع أي معارضة، سواء كانت حقيقية أم متخيلة، أمرا يوميا. واختفت بسببه عائلات بأكملها.

ولا تزال آثار القتل حاضرة في كل بيت ومزرعة بالبلدة. ففي موقع بناء لم يتم التحقيق به بعد، هناك ثلاجة يظهر الدم الجاف على جدرانها الداخلية. وفي مكان آخر، اصطدمت سيارة مليئة بثقوب الرصاص بأشجار، وما تبقى من ركابها سوى حذائين كعب عال وعقدة من الشعر.

وهناك طريق معروف باسم "مثلث الموت"، هو المكان المفضل لعمليات الإعدام. وتم تحديد هوية معظم الجثث التي عثر عليها في مشرحة المستشفى، بمن فيها أطفال. لكن قلة تم تحديد هوياتهم من الذين اكتشفت جثثهم في المقابر الجماعية. وتم التعرف على شخصين، أحدهما في الـ60 من عمره، رميت جثته في بئر.

ويعلق هيلتون بأن قصص الرعب التي يتحدث بها سكان ترهونة مؤسفة. ويكشف أي حوار عادي مع السكان عن اختفاء إخوة أو أقارب أو أعمام. وهناك مئات من الأطفال أضحوا أيتاما. وهناك شعور واضح بالراحة من خروج قوات حفتر وذهاب عائلة الكاني، لكن الشك المنتشر بين أهل ترهونة أنفسهم ومؤسسات الدولة لا يزال قائما.

وبحسب الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين في طرابلس، فعدد المختفين الذين تم الإبلاغ عنهم في ترهونة هو 270 شخصا، لكن الدكتور محمد الزليطني، مدير التعاون الدولي في المؤسسة، يقدر بأن هناك 150 حالة لم يتم الإبلاغ عنها؛ خوفا من الانتقام الذي لا يزال يحوم فوق البلدة.

ورغم هروب عائلة الكاني، إلا أن "شرهم لا يزال في ترهونة". واشتكى السكان من تلقيهم مكالمات هاتفية من الإخوة كاني، تهددهم بالانتقام لو كشفوا عن جرائمهم، ووعدوا بالعودة من المناطق التي يسيطر عليها حفتر.
ويشير الكاتب إلى أن محمد الكاني، وهو الأكبر من سبعة إخوة، لم يكن يظهر عليه أنه أمير حرب، فهو متعلم، والوحيد الذي كان له عمل في الخدمات السرية بشركة النفط. وخلف مظهره الهادئ هناك نزعة للوحشية والقسوة، فمن يطلب مساعدته تكون نهايته القتل وليس الاستجابة لطلبه.

وبحسب جليل الهوشي الخبير بترهونة، "كان مفكرا وظهر مثل الشيخ أو أل باتشينو في فيلم الأب الروحي. وكان محمد يفكر دائما ولم يطلخ يديه"، أما بقية الإخوة، فقد كانوا المنفذين لما يفكر به محمد. وأضاف: "لو تحدثت معه (محمد) فإنك لا تخرج من الحوار بانطباع أنه رجل عصابات تحت قدميه مئات من الجثث".

وإلى جانبه، كان شقيقه محسن الكاني، الرجل العسكري الذي قاد هجمات عائلة الكاني على طرابلس، سواء في أثناء هجوم حفتر على طرابلس، أو خلال الخلاف مع طرابلس حول الموارد المالية. ولأن محسن كان يريد الاستقلالية، ويحتقر قوات حفتر، فقد سبب صداعا لحفتر، حيث قبل أسلحة أمير الحرب وعصى أوامره. ما قاد لمقتله في ظروف غامضة مع شقيق آخر في سبتمبر 2019.

وأدت عملية قتل محسن وشقيقه إلى موجة من الغضب وعمليات انتقام وإعدام للمعتقلين. أما من قاد حملة القمع داخل ترهونة، فهو عبد الرحيم الكاني، والذي دوره يشبه مدير مخابرات.
وحصل الإخوة الكاني على ثروتهم من عدة مصادر، مثل مصنع للإسمنت، وأرصدة زراعية، وأخذ حصة من الأموال التي حولتها طرابلس إلى البلدية، وفرضوا إتاوة حماية، وابتزوا السكان، وطلبوا فدية عن الذين اختطفوهم.

ومثل عصابات المافيا لعبوا دور المحسن، وقدموا المساعدات للسكان الذين يكافحون للعيش بسبب الاقتصاد المنهار. وما بين 2015 واللحظة التي انضمت فيها إلى عائلة كاني لقوات حفتر، سيطرت العائلة على ترهونة بالعنف، والتطهير أحيانا، ما أعطى البلدة مظهرا خادعا للاستقرار.

وقال الهوشي: "لو كنت في ليبيا عام 2015، وتنظر حولك، فسترى كابوسا في كل مكان، طرابلس خطيرة، وداعش في سرت وسبراطة، وجثث على الشاطئ في زوارة"، مستدركا: "لكن ترهونة كانت جميلة وهادئة وآمنة، مثلما تبدو كوريا الشمالية آمنة للغاية". وراهنت عائلة الكاني على دعم حفتر كوسيلة لزيادة الثروة، ولكنه كان رهانا خاسرا.

وبحلول 13 نوفمبر 2019، لم تكن الأمور تسير بشكل جيد لحفتر ولعائلة الكاني. فقد قتل شقيقهم محسن، وخسر حفتر "الغريان"، وأعطى هجوم على "حي الداوون" في ترهونة فكرة لعائلة الكاني بأنها ليست في مأمن من الخطر.

وينقل الموقع وقائع لحادثة مؤلمة من الاختفاء القسري والقتل مارستها عائلة الكاني بحق أشقاء وصديق مقرب من الشاب أحمد سعيد عبد الحفيظ. ويقول عبد الحفيظ إنه عندما تلقى مكالمة قصيرة من شقيقه، قال فيها إن سيارته قد أوقفت، وإنه مع عائلة الكاني، "فقد توقعت الأسوأ، خاصة أن الاختفاء القسري كان في تزايد مستمر".
وليست هذه المرة التي يواجه فيها عبد الحفيظ (39 عاما) عائلة الكاني، فقد حاولت ابتزازه بالماضي، وأجبرته على شراء جمال بسعر زهيد. واعتقد هذه المرة أن المال سيخلص شقيقه.

وبعد المكالمة، قام بجمع أشقائه في بيت العائلة، وطلب منهم جمع ما يستطيعون من المال للفدية. وبعد عوته إلى بيته منتظرا الأخبار، علم في اليوم الثاني أن عائلة الكاني اعتقلت بقية إخوته. ويقول: "لقد خسرت خمس إخوة على يد عائلة الكاني، إلى جانب صديق كان لي مثل الأخ"، وأضاف: "لا يوجد أي سبب لاعتقالهم، فنحن تجار لسنا تنظيم قاعدة ولا إخوان مسلمين".

وبعد هروب الكاني، أسرع عبد الحفيظ إلى بيت العائلة، ليكتشف أن إخوته اختفوا، ولم يعثر عليهم بعد فتح السجن. وحولت عائلة الكاني مركز فحص زراعي إلى سجن. وعندما سيطرت حكومة الوفاق على المركز، لم تجد إلا رجلا حشر في فرن كان حيا، ولكن في حالة سيئة. ورفض الخروج؛ لخوفه من أن تكون هذه حيلة من عائلة الكاني.

ويقول علي سعيد أبو زويد، الذي اعتقل في واحدة من زنازين السجن لمدة 45 يوما لم يتكلم فيها ولا كلمة مع المعتقلين الذين كانوا على يمنيه ويساره: "بقينا صامتين طوال الوقت؛ خوفا من الحديث مع بعضنا البعض".
ولا يعرف أبو زويد سبب اعتقاله، رغم شكه بأن السبب كان قتاله ضد تنظيم الدولة في سرت. وخسر 30 كيلو جراما من وزنه، ويقول: "عندما كانوا (عائلة الكاني) يأخذون شخصا للتحقيق معه كنا نسمع صوت إطلاق النار". وأضاف: "كان السجناء يذهبون ويعودون، وأحيانا لا يرجعون".

كما استخدمت عائلة الكاني مركزا أمنيا كسجن، وتم الكشف عن أحذية أطفال منتشرة على أرضية الفرع. ومثل المركز الزراعي، فمعظم الذين اعتقلوا في المركز لا يزالون من المفقودين. وما بقي من عائلة الكاني هي سوط كان يستخدم لضرب المعتقلين، وصورة جدارية لمحسن الكاني.

وبالنسبة للسيدة غزالة علي ونيس، التي رأت عائلة الكاني وهي تختطف سبعة من أولادها، فهي تكافح الآن لإعالة 40 من أحفادها. وقالت ونيس: "أكبر رجل بقي عمره 13 عاما"، مضيفة: "لا أريد مالا أو طعاما، ولكن أولادي، أعطوني واحدا منهم". وتقول: "علي عمل كل شيء بنفسي، وتوفير كل شيء لأحفادي وأمهاتهم".

ويخشى الناس بعد هروب عائلة الكاني من الإبلاغ عن المفقودين؛ لأن بعض الذين تعاونوا مع العائلة لا يزالون يعملون في البلدية.
وأصبح منظر المسلح مثار خوف لأطفال طارق على الجاد الله، الذي أطلق النار عليه وهو في الشارع أمام ابنه. وفي اليوم التالي، قامت عائلة الكاني باعتقال 10 من أفراد العائلة. وحينها قال أحد الموالين للقذافي، ومن قادوا عملية الاختطاف، واسمه صبري الغرب: "لا تتركوا رجلا".

وقالت رابية الجاد الله: "خسرت زوجي وأربع إخوة وعم واحد وأربعة من أولاد عمي". وقالت فتاة صغيرة كانت تجلس خلفها: "لقد أطلقوا النار على أخي"، وقالت أخرى: "والدي مفقود".
بعد تحرير ترهونة، سجلت حالات نهب وحرق وانتقام قام بها المنتصرون، وقتلت "أسودا" كان يحتفظ بها محسن الكاني في بيته، ويطعمها من لحم ضحاياه، كما قيل.
ويؤكد عمدة البلدة أن عددا من الأشخاص قتلوا بسبب خلافات عائلية. لكن مصادر في غرب ليبيا تقول إن عمليات إعدام فورية (انتقامية) نفذت في ترهونة.

وانتهز الإعلام الموالي لحفتر قصص الإعدام، ونسي جرائم قوات حفتر والقبور الجماعية، وحمّل المرتزقة السوريين المسئولية عنها.
ولا تزال عائلة كاني والموالين لها، يبلغ عددهم 15 ألف شخص، في ضيافة حفتر في شرق ليبيا. وهناك من رفض وجودهم في بنغازي؛ لأنهم عبء.
ورغم كل هذا، فإن حفتر ورعاته الإماراتيين ووسائل إعلامية تابعة لهم، تعتبر أن عائلة الكاني جزء مما يسمونه "الجيش الوطني الليبي".

وقالت فاتو بنسودة، المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية، إن اكتشاف مقابر جماعية في ترهونة قد يصل إلى جرائم حرب ضد الإنسانية.
وقال مكتب المدعية العامة إنها تتابع الموضوع تحديدا مع السلطات الليبية؛ من أجل التحقيق في المقابر الجماعية".