صار يُضرب ببلاد العرب المثلُ فى الديكتاتورية والاستبداد، وأنها بلادٌ يُرفع  فيها السوط على رءوس العباد، والقرار والحكم فيها بيد طغاتها لا بيد شعوبها التى لا تعلم عن أمور السلطة شيئًا، بل من يتمرد على هذه الأنظمة، جمهوريات وممالك وإمارات، مصيره القتل أو الإخفاء..

فأينما شرَّقت أو غرَّبت فى عالمنا العربى الميمون، من المحيط إلى الخليج، لا تجد إلا تخلفًا وفقرًا وجهلًا، وأنظمة تفتقد لأدنى مراتب الشرعية، متخمة بالفساد، قائمة على قوة الساعد والسلاح، عمَّرت فى مواقعها مثل نبت شيطانى قطع الطريق وحبس الناس عن أشغالهم، وقد تولَّدت عن هذه الأنظمة عصابات مصالح بأعداد غفيرة، تتولى حراسة هذه الأنظمة وتطارد أى بادرة من بوادر الإصلاح.

وللأسف يلصق البعض، خصوصًا الغربيين، هذا التخلف بالإسلام، بادعائهم أنه يكرِّس الجبرية وفساد الحكام، وأن تلك سمة المجتمعات العربية التى تدين به دون غيرها من المجتمعات الغربية التى لا يعرف بعضها إله السماء. وهذا بالتأكيد تجنٍّ وافتراء على هذا الدين الخاتم الذى مداره على سعادة الإنسان وحريته. والحقيقة أنه ما استحكم هذا التخلف إلا لبعدنا عن الإسلام، وأن هؤلاء الطغاة لا يمثلونه من قريب أو بعيد، بل جُلُّهم يحاربونه ويسجنون دعاته ويجففون منابعه.

إنْ أردنا الحقيقة فإن هذه الأنظمة التى تولَّت مقاليد الحكم مع جلاء آخر جندى من بلادنا؛ هى بنت «الاستعمار»، وريثة الاحتلال، صنيعة الشرق والغرب، وإن قال لكم أحدٌ غير ذلك كذِّبوه واحثوا على رأسه التراب، فهى وإن تدثرت بالوطنية والعروبة والقومية وغيرها من التسميات بعيدة كل البعد عن منهج الإسلام الذى يأمر بالعدل والإحسان وينفى عن أتباعه الجهل والرجعية ويأمرهم بمحاسن الأخلاق. هى أنظمة علمانية مشوشة، غايتها تبرر وسيلتها، تؤمن بحقها وتكفر بحقوق الآخرين، تسعى لمصلحتها ولو حصدت أرواح الملايين، ترفع شعارات براقة ولا تنفِّذ منها شعارًا واحدًا.

لمَّا انحرف الناس عن دينهم ووهن التوحيد فى قلوبهم زاغوا وضُعفت شخصياتهم فخضعوا لهؤلاء الجبابرة وجنودهم الذين استغلوا هذا الخور والهزال الروحى فأحكموا القبضة، ونحُّوا الدين جانبًا، وأتوا على كل نبتة إصلاح فاقتلعوها، ولا يزالون يغلقون منافذ الحرية ويسدُّون أبواب الخير حتى أجهدوا الشعوب وأحاطوها بأسوار الفقر من كل ناحية.

إن فى الإسلام، والإسلام وحده، حلًّا لهذه القضية التى استغرقت عقودًا من عمر أمتنا الخالدة، ولو أن الناس فهموا هذا الدين وجعلوه منهج حياة لسلموا وغنموا ونجوا من هذا البؤس، لكنهم خُدعوا بشعارات المستبدين وظنوا أنها تنجيهم مما هم فيه، وهذا أمرٌ لا يقبله عاقل وقد مرت علينا أنظمة تلو أخرى كلما جاء نظام كان أسوأ من أخيه. فى الإسلام الشورى، وفيه (إن الحكم إلا لله)، وفيه كفرٌ بالجبت والطاغوت، وفيه حريات سابغة بما فيها حرية العقيدة، وفيه (لا يكن أحدكم إمعة..)، وفيه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)، وفيه إقرار بالشهادة لمن مات دون دينه أو عرضه أو ماله، وفيه تحرير للعقول من ميراث الآباء والأجداد الضال، وفيه شنٌ للحروب على الفراعين، وفيه أن أفضل الشهادة من قال كلمة حق عند  سلطان جائر، وفيه تهديد ووعيد لمن لم يعدل بين الناس ولمن عذبهم.. إلخ.  

لما تُرك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ساد الظلم كما ساد الجهل، وتقدمت النفايات وتأخرت الكفايات، وظهر «الرويبضة» وعلا أمتنا سفلتها وغاب سادتها حتى حكمنا المعتوه والرعديد والمضطرب. ولما تردد المصلحون وشحُّوا بالتضحية حرموا أنفسهم وأوطانهم الخير فاستأسد الكلب وارتفع ذيله وعلا نباحه، ثم انعطف على هؤلاء المترددين فمزقهم وعاث فيمن حولهم.

لقد استبدل المستبدون الوطن بالدين والقومية بالإسلام، وقصروا الانتماء على اختياراتهم، وهذه جريمة فى حق الدين والوطن معًا؛ إذ هم يبغون من وراء ذلك تنحية الدين وما دروا أن ذلك هو ما جر علينا كل هذا الفشل والفساد وقسَّم الشعوب وأفرز الطبقية. والإسلام لا يعرف هذه التقسيمات فهو مع الاعتزاز بالوطن لكنه الاعتزاز الذى لا يُنَحِّى الدين، بل ليظل الدين هو السيد وهو العز، وهو الذى تدور فى فلكه الأوطان ولو كانت تحتضن ألف طائفة أخرى.